اللي ما يعرفك ما يثمنك
الذي ما يعرفك ما يثمنك، هكذا كان ينطق بها الأجداد والآباء في تناولهم لظاهرة جهل بعض الناس لبعضهم البعض، وهم بذلك يحذرون زملاءهم ومعارفهم وأصدقاءهم بألا يلقوا الأحكام جزافًا على الناس الذين لا يعرفونهم جيدًا، وكأنهم يقولون لنا قبل أن تطلقوا الأحكام على الناس عليكم معرفتهم جيدًا من خلال أعمالهم أو من خلال السؤال عنهم من قبل أولئك الذين يعرفونهم جيدًا، كما أن القول الشائع الذي يردده رجال مجتمعنا رواية توارثناها عنهم، وهي عندما يسألون أحدًا عن شخص يدعي المتحدث أنه يعرفه جيدًا فيقولون له: هل تعرف فلانًا؟ فيقول بكل ثقة: «نعم أعرفه جيدًا» فيردون عليه الجواب «وهل سافرت معه؟» فيقول: «لا، ولكني أعرفه» فيأتيه الجواب «إذن أنت لا تعرفه»، لأنهم بالفعل على قناعة راسخة بأن السفر مع صديق أو معرفة امتحان عملي صعب؛ لأن السفر يظهر المرء على حقيقته في تصرفاته وأفعاله وردود أفعاله.
وهذه هي تجاربهم في الحياة التي استفادوا منها، ونمت علاقاتهم مع بعضهم البعض، ففي الشدائد تعرف معادن الرجال والنساء أيضًا على حد سواء، ولمَ لا؟!
علينا فعلاً ألا نصدر الأحكام جزافًا على من نعرفهم أو لا نعرفهم قبل أن نختبرهم ونعاشرهم في كل الظروف والملابسات، فتجارب الحياة تصقل المرء وتزيده خبرة وتجربة، مع إيماننا الراسخ بأن الكمال لله وحده، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون».
إن الصداقة والمعرفة الحقة تحتم علينا أن نتناصح وأن نتصارح مع زملائنا ومن نعرفهم حتى تستقيم أمور حياتنا، فنحن جميعًا نمر بظروف متباينة والحياة تعلمنا الكثير، كما أن صحبة ذوي الخبرة والتجربة في الحياة تضيف الكثير إلى تجاربنا الشخصية. والمهن التي زاولناها ونزاولها تفيدنا في إغناء تجاربنا العملية والعلمية وتضيف لنا خبرة وتجربة تغني مسيرتنا في الحياة ومواجهة الصعاب، وفي الوقت نفسه معرفة الرجال والنساء وتقييم أدائهم وجهودهم التي هي بلا شك إثراء لتجاربنا جميعًا.
وإذا كان هذا الأمر يمس الأشخاص والأفراد في مجتمعنا، فإن ذلك بلا شك ينطبق على الأمم كما ينطبق على البلدان، فنحن في زمن التحديات التي تمارسها دول ويمارسها أشخاص قد يكونون مفكرين، ومبدعين، وسياسيين ومنظرين اقتصاديين واجتماعيين ومثقفين وتأثيرهم بالغ إيجابًا وربما سلبًا. ومن هنا، فالأحكام التي نود أن نطلقها تتطلب الرؤية والإمعان والتمكن والروية، ولذلك فمسؤوليتنا في أوطاننا كبيرة، وطالما كان التعاون والتكاتف والتشاور فيما بيننا قائمًا من أجل مصلحة أوطاننا وشعوبنا، فإننا نأمل الخير في كل مسعى نسعى إليه، وتكون عبرتنا في تاريخنا القديم والحديث والمعاصر فدروس تاريخ الأمم كتاب مفتوح، ولكنه في الوقت نفسه يحتاج إلى قراءة متأنية ومتمعنة وفرز الإيجابي والسلبي.
نظل فعلاً بحاجة إلى التمعن فيما كان يقوله الأجداد والآباء رغم أنهم ربما لم ينالوا من العلوم ما نعرفه اليوم، ولكن الحياة وتجاربها واحتكاكهم بالغير وأسفارهم وتعاملهم مع الآخرين تكونت عندهم التجارب الضرورية، واتخذوا منها دروسًا للمقبل من الأيام، فهم جزاهم الله خيرًا لخوفهم علينا ورغبتهم في إسداء النصح لنا يوجهوننا إلى الطريق الصحيح.
وعلينا نحن أن نكون أيضًا إيجابيين في الاستماع إليهم والتمعن في كلامهم والانفتاح على تجاربهم الحياتية.
وبالمقابل عندما نعرف معادن الرجال والنساء وما هم عليه من معرفة وعلم وتجارب أن ننزلهم المكانة التي يستحقونها ونأخذ بأيديهم لخدمة مجتمعنا وأخذ المشورة والرأي السديد منهم فهم عندما يشعرون بهذه التصرفات منا ترتفع معنوياتهم ويزدادون ثقة بمجتمعهم ويكون العطاء من الجميع لخير الأوطان، وأشد ما يؤلم المرء أن يجد في نفسه القدرة والمعرفة والدراية والخبرة ولا يستفاد منه في الأمور الصغيرة والكبيرة على حد سواء. إننا نقدر الأشخاص لعطائهم وفي ذلك تقدير للأوطان التي هم ينتمون إليها، فالأمم تعرف بمواطنيها المخلصين الذين يسدون النصائح وهم يؤمنون بالغيرة على الأوطان والمواطنين، فالأخذ والعطاء والإيجابية في تناول قضايانا المعاصرة والنظرة المستقبلية تتطلب منا تقدير الناس لمنازلهم والتشاور معهم وأخذ التوجيه اللازم النابع من الغيرة على الأوطان، والمصلحة العامة هي المبتغاة في كل مسعى نسعى إليه، والمواطن عندما يشعر بأهميته تتضاعف جهوده لخير وطنه وأمته. نحن لسنا بكاملين ولكن تعاوننا مع بعضنا بعضًا يثري تجاربنا في الحياة، ويزيدنا خبرة وتجربة، ومن نعرفهم جيدًا علينا أن نثمن عطاءهم وخبرتهم وتجربتهم لأن فيها الفائدة كل الفائدة للوطن والمواطنين.
وعلى الخير والمحبة نلتقي..