بدء موسم حصاد القمح بالمنيا.. رحلة الفلاح من الكفاح إلي الفلاح
تحقيق محمد الشناوي
القمح هو الركيزة الوحيدة التي تعتمد عليها الدولة في رغيف الخبز المدعم الذي يقدم الي المواطن فهو عامل اساسي لا يمكن الاستغناء عنه وفي ظل ما يشاهده العالم من أنهيار اقتصادي والحرب الاخيرة بين روسيا واوكرانيا وهما الدولتان ذات الاهمية لمصر في استيراد القمح لتغطيه الاكتفاء الذاتي للدولة .
الا ان مصر مؤخرا بقيادة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي قام باستصلاح وزراعة مشروع المليون ونصف المليون فدان بالصحراء بمحافظات مصر المختلفة.
حصاد القمح هو المناسبة الأهم للفلاح عندما يرى نتاج تعبه لشهور فى الزراعة، مع أول حبة قمح يلمسها بيده، وأول رغيف خبز يدخل جوفه من محصوله. تلك الفرحة غير المرئية قد لا تراها بوضوح على وجهه، غلب عليه الشقاء والإرهاق، ولكنها فرحة باتساع الكون.
منذ قديم الزمان، يحظى هذا الموسم باهتمام كبير لما له من تاريخ عريق، مرتبط بالحضارة الفرعونية، وظل بالأهمية ذاتها حتى يومنا هذا، حيث نرى أن مائدة لن تخلو من أحد منتجاته.
يبدأ الفلاح زراعة القمح فى نهاية العام، إلى أن يتم حصاده فى شهر إبريل من العام التالى، لتأتى بعدها المراحل تباعًا، وأبرزها مرحلة فصل القمح عن القش، وهى ما تسمى «الدراس».
الأب والأم والأطفال جميعهم يشتركون فى هذه المرحلة، ورغم صعوبتها ومجهودها الشاق، ترى الفرحة على وجوههم بسببها، وهنا نستطيع القول إن حصاد القمح عملية «لَمّ شمل الأسرة»: «فى البيت عندنا وقت الحصاد ده بيبقى عيد، البيت كله يتجمع ولو فى أنفار بتشتغل معانا وبعدها نجتمع كلنا على الأكل»، هكذا يقول صابر محمد، رب الأسرة، صاحب ثلاثة فدادين من الأرض.
وتقوم الزوجة بمساعدة زوجها فى هذا الموسم، فتقدم له يد العون فى كل مرحلة، إلى جانب مهامها اليومية المعتادة، فتستيقظ منذ الصباح الباكر وتقوم بإعداد ما يلزمهم فى هذا اليوم، «إحنا اتعودنا إن الست تبقى سند للراجل فى الحلوة والمرة»، قالتها ببساطة ميرفت عبده، زوجة «صابر». «ميرفت» لم تكن لديها خبرة من قبل فى العمل فى الزراعة، فبعد أن أكملت تعليمها عملت فى أحد المحال التجارية حتى تزوجت من «صابر»، وتعلمت معه كيف تقوم بأعمال الفلاحة، وكانت تسانده فى كل عمله، إلى جانب تربية أطفالها الثلاثة.
بعد الحصاد، يُجمع القمح فى أكوام حتى يجف، وبعدها يبدأ «الدراس» بآلات الدراسة الحديثة، التى تفصل القش، وهو ما يسميه الفلاح «التبن» ليستخدمه علفًا للبهائم، فيما تُجمع حبوب القمح فى أجولة حتى يتم البيع أو التخزين، بينما لسان حال الأسرة يردد قائلًا: «يا رب تبارك يا رب».
ويبدا احد الفلاحين، ويدعي، إبراهيم عبدالله، بروايه القصه، قائلًا: ان "الفلاح يقوم بالزراعه بدايه من وضع البذور وحتي جنيها، ولكن ما بين ذلك معاناه تبدا من الجمعيه الزراعيه، وتنتهي بجشع التجار، الذين يتفننون في اذلال الفلاح لاعطائه حصته من الاسمده الزراعيه، التي فاقت اسعارها الحدود، واصبح المحصول لا يكفي مصاريف الزراعه، فالفلاح يخرج من الصباح الباكر، ولا يعود لبيته الا مع غروب الشمس، وفي النهايه لا يجد ما يكفيه".
ويضيف فلاح اخر، يدعي، صبحي شحاته ، انه "يعاني من ارتفاع اسعار السولار ، كما ان ملاك الجرارات يشترطون علي الفلاحين توفير السولار من اجل درس محصولهم، ورغم معاناه الفلاح طوال العام في ري ورش ادويه، ومتابعه المحصول الا ان الفرحه والبسمه لا تفارق وجهه عند جني محصوله".
ويقول احد الفلاحين، ويدعي علي حسن، ان "الماساه في موسم الحصاد تدبا مع عمال التراحيل او اليوميه، ولاسيما من النساء، اللاتي يخرجن من بيوتهن في الصباح الباكر تاركين ابناءهن للعمل في الحقول، لتوفير حفنه من الغلال او الارز او بعض الاموال التي لا تفي باحتياجات المنزل، فتجد الزوجه في الريف، ولاسيما في موسم الحصاد، تشارك زوجها في العمل تحت شده اشعه الشمس وارتفاع درجات الحراره، وتحمل الاثقال لتوفير لقمه العيش لاسرتها".
ويواصل عدد من الفلاحين روايه قصتهم، ومنهم، سعيد ابراهيم، وصلاح رجب، واحمد السيد، قائلين: "نقوم باستخدام المنجل "الشرشره" في حصاد القمح، بسبب "نوم" العيدان علي الارض، وعدم تمكن الماكينه الاليه من حصادها، والمنجل دائمًا ما يستخدم في حش البرسيم، وحصاد الارز والفول، وغيرهم، والحصاده الاليه توفر الوقت والمال للفلاح، ولاسيما بعد ارتفاع اجر العاملين في الحقول، علاوه علي انها افضل من حصاد المنجل، فدائمًا ما يكون قمحها نظيف".
واوضحوا، ان "الحصاده الاليه، خاصه التي تقوم بتربيط العيدان، تساهم في توفير العماله اثناء عمليه الدرس، ولا تهدر كثيرًا من عيدان القمح في الارض".
واشاروا، الي انهم رغم معاناتهم من قسوه العمل مع ارتفاع درجه الحراره والصيام وهبوب الاتربه وتطاير "التبن"من ماكينه الدرس علي اعينهم واجسامهم، الا انهم لا يشعرون بذلك، فهم تعودا عليه، قائلين "رشه ميه ونكون بخير".
ولم تنس السوق العربية رصد كفاح المراه المصريه مع زوجها الفلاح، فروت عدد من النساء اللاتي يعملن في الحقول، منهم، عزيزة أحمد، وخديجة محمود، ووفاء محمد، كيف يشاركن في موسم الحصاد، قائلات: "نخرج للعمل لمساعده ازواجنا في المعيشه، نظرًا الي ارتفاع الاسعار، وننتظر موسم الحصاد حتي نجمع كميه من الحبوب "الغله" لناخذ اجره من الاهالي".
لم يعد للمنجل اليدوي الحديدي مكان بين الآلات المتطورة التي توفر على المزارعين وقتهم وجهدهم.
لكن في المقابل تنساب من بين ذكرياتهم ملامح جميلة لهذا الموسم الذي كان ومازال من صور قرانا الحية بأبنائها.
يبدأ موسم حصاد محصول القمح مع بداية الوقت الذي يشعر القروي بأن السنابل لم تعد قادرة على حبس خيرها فيها، مناديةً عليه “حان جني الخير ايتها الأيادي السمراء”. تبدأ العائلة اعداد العدة للعرس الذي يؤمهُ الناس دون دعوة، ليكونوا ممن يساهمون في المساعدة والمشاركة في جني الخير للغير لأن العرس القروي سيمر بهم أيضاً وسيتجمع الآخرون لمد يد العون و”الفزعة”.
وما أن تبدأ شمس الصيف بإعطاء لونها الذهبي لسنابل القمح المُحملة بالخير و”المونة” والمائلة بتواضع للأيادي المتعبة والمتشققة من تعبٍ دام عقودا، حتى يبدأ المزارعون و”الحصادون” بالتحضير لموسم الحصاد الذي كان نتاج عمل وتحضير منذ ما قبل الشتاء، وخلاصة الموسم الزراعي في معظم قرى المملكة, فموسم الحصاد له طقوس محملة بالتعب واللذة, لكن في زمننا الحالي لم يترك التطور لحصادينا خياراً آخر إلا أن تدخل بيوت الحجر الطينية وتنزع المنجل من بين يديهم وتتدخل الآلات الحديثة بالموسم السنوي .
ولموسم الحصاد قصة أجداد، وتاريخ أحياء قروية محملة بالذكريات عن روعة الموسم وسِمة التعاون بين ابناء القرية الواحدة في حصاد القمح عند أحدهم، لتبدأ دورة متماسكة بين البيوت لحين الانتهاء من جمع الغلال ومونة الشتاء الذي يتحول بين يدي حاصديهِ ونسائهم الى الخبز الذي هو ضرورة الحياة وغذاء الغني والفقير، لكن مع تغير الحياة وتطورها تغيرت صور كانت في السابق من أجمل صور، التواصل والعطاء والشعور بلذة التعب والانتظار لما ستجنيهِ أيديهم من جهدهم، يتحرك المنجل، بخفة بين اليدين اللتين تجمعان الخير من الأرض الطاهرة لوضعها في البيوت التي تعتبر القمح هو المصدر الرئيس والأساس لغذائها وتصريف باقي أمور الحياة، فيبيعون جزءا منه ويخبئون الجزء الأكبر في أكياس “شوالات الخيش” المُعدة مسبقاً لهذه الغاية لتكون مونة العام المقبل كاملاً. لكن أين هو المنجل الآن؟
والمنجل للذين لا يعرفونه هو الأداة الحادة التي تأخذ شكل القوس لتكون عوناً للمزارع في عملية قطع السنابل من اسفلها. نبحث عنه لنجد أنه لم يعد له مكان بين الآلات الكبيرة المتطورة، وقد نلمحه معلقاً في زوايا أحد البيوت كمنظر تراثي وصورة من صور الماضي فقط، متناسين أن هذا المنجل شارك أباءنا وأجدادنا بناء البيوت وإطعام الأطفال الذين كانوا يقفون بالقرب من الحصادين عند غروب الشمس وانتهاء الحصاد علّهم يحصلون على قليل من القمح مما تمن به نفس أجدادهم ليستبدلوها بقليل من حلوى تلك الأيام. ومن الأدوات الأخرى الداعمة لعملية الحصاد هي “الشاعوب” كما يسميه القدامى وهي عبارة عن الأداة المستخدمة في فصل حبوب القمح عن باقي أجزاء السنبلة عن طريق نثرها في الهواء لتتدخل الطبيعة ونسماتها في هذا السعي من أجل الرزق.
ورغم العناء الذي يتخلل عملية الحصاد، إلا أنها كما يؤكد كبار السن الذين مارسوها لسنوات طويلة أن “تلك الأيام كانت من أجمل الأيام التي مرت بهم خلال حياتهم المفعمة بالذكريات العتيقة رغم صعوبة العمل خلال النهار الطويل من بزوغ الفجر ولغاية غروب الشمس”التي تذكرهم بأن عليهم العودة الى البيت العتيق لقليل من الراحة استعداداً ليوم آخر من “التعب المريح ذهنياً”.
على مساحات شاسعة من بلادنا شمالاً وجنوباً تنتشر السنابل المحملة بلونها الذهبي الدافئ وكأنها لآلئ ذهبية بعد أن كانت بساطاً أخضر يغطي الأراضي التي ستصبح بعد فترةٍ قليلة جرداء بانتظار موسم عمل وزراعة ومحاولة لبسط الغطاء الأخضر ليتحول إلى اللون الذهبي مرة اخرى بعد الشتاء القادم.
ومن القصص التي حملت معنى جميلاً للقمح وخيرهِ ما جاء في قصة سيدنا يوسف عليه السلام عندما رأى الملك في منامهِ حلماً بأن هناك “سبع سنابل خضر وسبعٌ أخرى يابسات” ففسرها سيدنا يوسف بأن “السنابل الخضراء تعني سني الخصب والعطاء والغلال بينما السبع اليابسات هن سنوات المحل والجفاف الذي سيحل بالبلاد بعدها”. وكتب ابن سيرين في كتابه “تفسير الأحلام” الشهير في تأويل القمح في الأحلام بأنه “مال حلال في عناء ومشقة وعمل في مرضاة الله ” وأشار في موقع آخر في نفس الكتاب بأن “السنبلة الخضراء خصب السنة بينما السنبلة اليابسة النابتة على ساقها هي جدب السنة”.
موسم الحصاد هو صورة وأحد طقوس الفلاحين الذين لم يتوانوا في حمل السلاح يوماً ما للدفاع عن بلادهم وأرضهم وحصادهم بنفس اليد التي حملت المنجل دون كلل وملل، مما عكس على قوتهم الجسدية وصفاء ذهنهم لغاية الآن لأنهم لم يكن لديهم همٌ سوى بذر القمح وانتظارهِ ليصار الى حصادهِ وجمعهِ لكي تعتاش منهُ أجيال متعاقبة، فلم يكن “الموبايل” هدفهم ولا حتى الدخول الى عالم الإنترنت المرهق حتى وأنت في مكانك، بل كانوا يبحثون عن النوم مساءً دون تفكير بما سيحملهُ الغد المشرق بنظرهم.
فسلمت تلك الأيادي السمراء الخشنة لكنها أكثر نعومة من أيامنا والتي باتت تعرفها السنابل الباحثة عنها فهذه الأيادي هي أكثر حناناً ورقةً عليها من الآلات الحادة وعجلات الحصادة الآلية، وتعرفها المناجل وحتى الشمس الشاهدة على حبات العرق التي كانت تروي الأرض قبل حبات المطر.
قال المزارع صلاح عبدالسلام ، "تربيت منذ صغرى على الزراعة، فنحن أسرة تعمل فى الزراعة ونتوارثها من الأجداد إلى الآباء وصولاً للأبناء، ولدى 4 أبناء بنت وثلاثة ذكور وهم محمد 31 سنة، وأحمد 28 سنة، ومحمود 25 سنة، ومن عشقنا للزراعة التحق الذكور بالثانوية الزراعية لإثقال الجانب الزراعى فى حياتهم، فهم يعملون مع أبيهم فى الأرض يزرعون ويحرثون ويحصدون.
وحول يومه فى الزراعة وحصاد القمح، يبدأ يوم صلاح عبدالسلام مع آذان الفجر فبعدما يستيقظ، يوقظ كذلك أهل بيته لأداء الصلاة فى وقتها، ثم يبدأ بحلب المواشى حتى يفطر مع أفراد عائلته قبل أن يتوجه إلى الأرض، وعادة ما يستقل الدواب كالحمير والجمال باعتبارها وسيلة التنقل الشعبية ما بين الأرض والمنزل وهو الأمر المعمم فى القرية كلها
وفى الطريق إلى الأرض الزراعية يتقدم العم سيد أولاده فى السير، ويقول "لا يخرج من ذهنى تلك الأغنية التى كان يرددها جدى وأبى عندما كنت صغيراً وفى طريقنا لحصاد القمح"، وتقول كلماتها: هيا للسنبل نحصده فى الليل على ضوء القمرِ.. أن ندى الصبح على السنبلِ كالفضة فى وادى الذهبِ.. فتعالوا نحصد بالمنجل ونغنى أغنية الطربِ
يصل العم صلاح وأولاده إلى أرضهم الزراعية فى قرية البهنسا التابعة لمركز بني مزار بمحافظة المنيا، وفور نزوله من دابته يأخذ ابنه الأصغر الحبل وفى أحد أركان الأرض يوتد الأبن حبل الدابة فى الأرض حتى لا تشرد وأيضاً لتأكل من تحتها، ويبدأ العم صلاح وأولاده فى إلقاء السلام على العمالة وعددهم 5 أشخاص وعادة ما يسبقونه إلى العمل فى الأرض، وبعد فترة من العمل وقبل الظهر يجهز أبناء العم صلاح الإفطار الذى جلبوه من المنزل لهم وللعمالة، فيفترشون الأرض وسط نسائم الخضرة وأصوات العصافير وتلال القمح التى حصدوها يأكلون ويشربون الشاى ويمسحون عرق جهد يوم جديد بذلوه فى حصاد القمح.
المزارعون يشربون الشاى تحت ظل الشجرة
ويستكمل المزارع صلاح الحديث وهو يجلس تحت ظل شجرة ويمسك فى يده كوب الشاى، "ورثت حرفة الزراعة من أجدادى، واستكملت المسيرة فى تطوير الأراضى الزراعية، وذلك من خلال استئجار عدد من الأفدنة الزراعية بالقرية وسخرت معظم هذه الأراضى لخدمة محصول القمح، فبلادنا مصر أرض غنية بخصوبتها وهو ما ورد فى كتاب الله حكاية عن قصة موسى مع بنى إسرائيل".
يسكت العم صلاح قليلاً ليلتقط شربة من الشاى، ويستكمل حديثه "نحن أسرة متوسطة الحال وليس لنا أرض نمتلكها، ودائما ما نلجأ لتأجير الأراضى لنزرعها ونعيش من قوتها، ونستمر فى عمل نشأنا عليه خلفاً لآبائنا وأجدادنا الذين كانوا يخلصون فيها ويحققون أعلى الإنتاج فى المحاصيل بشهادة الجميع، رغم ما نعانيه من إرتفاع فى الأسعار .