أسلم عاجبة
كان الأجداد والآباء ينشدون الحكمة وفصل الخطاب، ويأخذون من تجارب الحياة العبر والعظات، ويسقطونها على ما يتعرضون له من مصاعب ومشاق وضنى يصيبهم في أيامهم، فيتأسون بالصبر والاحتمال ويلجأون إلى ما قاله من سبقهم عندما تدلهم بهم الخطوب، ومن هذه القيم الحكيمة قولهم إذا ما تم وضعهم في مجال الاختيار بمن هو أصعب أو أسهل، وييسر أمورهم ويجنبهم مزالق الطريق ووعثاء السفر، فيقول: «أسلم عاجبة» أي علينا أن نأخذ ما هو أقل عاقبة وأخف على النفس، وييسر الأمور دون أدنى مشقة ومصاعب وربما مآسٍ لا تُحمد عقباها كما نقول في لغتنا العربية المليئة بالحكم والأمثال والأقوال الرشيدة.
فلو طبقنا في حياتنا المعاصرة ذلك لجنبنا أنفسنا وأوطاننا بل وأمتنا ويلات ما قد يصيبنا نتيجة الاختيار غير الصائب.
المرء منا عليه أن يستشير من هو صاحب تجربة واسعة، كما عليه أن يلجأ إلى من بيده حل العقد والمصاعب لأنه مر بتجارب في الحياة صقلته وأضافت إلى خبرته خبرات وتجارب يستفيد منها من هو يوطن النفس على تقبل نصائح المخلصين المتفانين في خدمة مجتمعاتهم وأمتهم.
الحياة بتعقيداتها ومصاعبها لا تخلو من دروس وعبر، وعلينا أن نستفيد من هذه الدروس ونستشير من هو قادر على أن يقودنا إلى البصيرة الحقة التي تحفظ علينا أرواحنا وممتلكاتنا وتصون كرامتنا وكرامة من نعيلهم ونسهر على مصالحهم، وقديمًا قيل: «علمت أشياء وغابت عنك أشياء»، فمهما بلغ المرء منا مبلغ العلم والمعرفة إلا أنه لا يزال بحاجة إلى من يسدي إليه النصيحة ويقدم إليه تجاربه في الحياة بكل تلاوينها وظروفها.. وليس يقتصر ذلك على عناصر الصعاب والعقبات والمصائب والمحن، بل إن ذلك أيضًا يشمل كل ما يسهم في النجاح والتفوق والفرح والسعادة.
الحمد لله أننا وجدنا في أيامنا المعاصرة شبابًا وفتية وفتيات اقتحموا مجالات اقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية وعلمية لم نعهدها من قبل في الأجيال التي سبقتنا والأجيال التي عاصرناها، ولكنها سُنة الحياة في التطور والنماء، وعلينا أن نشجعهم ونأخذ بيدهم ونصون كرامتهم ونستمع إليهم، وإذا كنا في زماننا نريد أن يستمع إلينا أبناؤنا، فإننا مطالبون اليوم بأن نستمع إلى أقوالهم وتجاربهم ونوطن النفس للاستفادة مما ينشدونه لخير الوطن والمواطنين، في حوار حضاري ينشد المصلحة العامة للوطن الذي له حق علينا، فالحوار بين فئات المجتمع الواحد قوة ومنعة، والمرء منا مهما بلغ من العلم والمعرفة فهو بحاجة إلى الدعم والتشجيع والمؤازرة، فهو لا يعيش في فراغ ولا ينشد لخير لذاته، وإن كان ذلك مشروعًا ولكنه بالمقابل يسعد عندما يقدم الخير للآخرين ويشعر بأن الاستفادة قد عمت المجتمع.
ليست الأمور سهلة وميسرة كما يظن البعض، لأننا نعيش في مجتمعات عالمية فيها متغيرات وتحديات وعناصر إحباط ويأس وتثبيط للهمم والعزائم، بل لا نبالغ إذا قلنا مكائد ودسائس وزرع كل ما ينتج من عراقيل لا تنشد الخير لنا ولمجتمعاتنا ولكن علينا أن نكون متيقظين وداعين لكل ما يحيط بنا إن خيرًا فخير، وإن شرًا علينا تداركه والتغلب عليه وتفاديه؛ فالعقد البشرية كثيرة ومن يحاولون أن يسيئون إلينا كثر، وعلينا أن نكون واعين ويقظين ونحاول أن نجعل من الحياة أكثر أمنًا وأمانًا وهو أمر ليس بالسهل والميسور، ولكنه يحتاج إلى تكاتف الجهود وتسخير كل المعارف والعلوم التي بأيدينا أو بأيدي غيرنا لنعيش في أمن وسلام ونأخذ من الأمور ما هو أقل عاقبة، وبذلك نبني عليه كل ما يفيد مجتمعنا وأهلنا وأمتنا، فالرسالة الإنسانية التي حملناها من خلال عقيدتنا السمحة تتطلب منا أن نكون بالفعل أصحاب هذه الرسالة التي فيها الخير والأمن والأمان لمجتمعاتنا وأهلنا، فنحن أصحاب حضارة وشواهدها ماثلة في ما نكتشفه واكتشفناه من آثار وما أطلعنا عليه من تراث ثقافي وحضاري تحلى به من سبقنا وكانوا شغوفين بالعلم والمعرفة، وحسنًا فعلت بعض أجهزتنا الثقافية بتكريم مبدعينا العرب وما حققوه من إنجازات فكرية في مختلف العلوم والمعارف، وخصصت سنويًا جوائز للمبدعين في مختلف العلوم والمعارف والثقافة، وحتى عندما نكرم الراحلين فإن أبناءهم وأهلهم يشعرون بالفرح والسعادة ويعرفون أن عليهم مسؤولية حمل الأمانة والسير على منهاج من سبقهم، فالخير لا يضيع والفرح بالإنجاز يستمر ولا يغيب، وعلينا أن نأخذ بما كان يقوله الأجداد والآباء، علينا أن نأخذ بما هو «أسلم عاقبة».
وعلى الخير والمحبة نلتقي..