السوق العربية المشتركة | رأس المال فى القرن الواحد والعشرين

السوق العربية المشتركة

الثلاثاء 19 أغسطس 2025 - 00:01
رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
نائب رئيس مجلس الإدارة
م. حاتم الجوهري
رأس المال فى القرن الواحد والعشرين

رأس المال فى القرن الواحد والعشرين

فى الممرات الضيقة والمعتمة لمدرسة الاقتصاد فى باريس (جامعة عليا ومرموقة) قد تصادف عدداً من الصحافيين والإعلاميين من صحف ومحطات تلفزة من حول العالم يفتشون عن مكتب الأستاذ توما بيكتى ينتظر كل واحد دوره لإجراء مقابلة لا عجب، فقد أطلقت عليه الايكونوميست لقب «كارل ماركس الجديد».



تقول دورية نوفل أوبزرفاتور: انه الفرنسى الذى كلما فتحت صحيفة اقتصادية عالمية تجد عنه مقالاً أو تجد له مقابلة.. من بكين إلى نيويورك مروراً بكل العواصم الكبرى الأخرى.

وتضيف: «لكن لا كرامة لنبى فى وطنه!». قبل أيام قليلة عاد بيكتى (43 سنة) من جولة عالمية شملت نيويورك ولندن، حيث يباع كتابه الجديد «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين» بكثافة، فى لندن وحدها انتشر الكتاب فى فترة وجيزة بنحو 400 ألف نسخة، مقابل 100 ألف نسخة فى فرنسا.

بعد تلك الجولة التى شملت حفلات توقيع كتابه، عاد إلى مكتبه المتواضع مجدداً التزامه بالتدريس، بلا أى تأفف، بل تراه يشرح دروسه كالمعتاد وبالهمة والنشاط نفسهما.

لقد عمل 15 سنة على تأليف الكتاب الممتد على 950 صفحة، وما الاحتفال العالمى به إلا تتويج لهذا الجهد الجبار.

الكتاب يستعرض بالارقام والجداول تاريخ الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر. والنقطة المركزية فيه ان نمو عائدات رأس المال اسرع من النمو الاقتصادى العام، والنتيجة زيادة ثراء الاثرياء مع اتساع للفجوات على نحو آلى. الاستثناء الوحيد فى تلك الدراسة المقارنة لــ300 سنة هو السنوات الــ30 اللاحقة للحرب العالمية الثانية التى ضيقت الفجوات نسبياً بين شرائح مجتمعات الدول الكبرى الصناعية. اما الآن، بحسب بيكتى، فالفوارق تكبر لنعود تقريبا الى ما يشبه مراحل الاقطاع قبل عدة قرون.

الدراسة الاحصائية توجه لطمة للنظرية الليبرالية القائمة على ان تدفق المال ليس باتجاه واحد بل يشمل متفرعات، كما الماء المتسرب من الانهار فى جداول ذات اليمين وذات اليسار، بمعنى آخر، كانت النظرية تؤكد ان ثروات الاغنياء تفيد الفقراء ايضا، مع امثلة كالتى عشنا عليها طويلا ونكررها بذكر نموذج «الحلم الاميركى»، حيث الكفاءة والاجتهاد والعمل بجد وتنافسية.. تثمر مالا لا محالة.

عند ظهور الكتاب فى فرنسا، تعامل معه كثيرون على انه ماركسية تريد تجديد نفسها. أُهمل الكتاب من السلطات السياسية والاندية الفكرية والجامعية، ولم يعطه الاعلام اهتماماً كافياً. والانكى ان اليساريين رأوا فيه تبريرا للنظام الرأسمالى، لانه لم يتناول قضية الصراع الطبقى لا من قريب او بعيد. كما لم يعبأ الكتاب بالرئيس الفرنسى فرنسوا هولاند الآتى من اليسار ايضا، لانه اليوم يحاول تخفيف العبء الضريبى لتستطيع الشركات خلق فرص عمل فى بلد متخم بالبطالة. علما بان بيكتى عمل مستشاراً مع سيغولين روايال فى 2007 عندما ترشحت للانتخابات الرئاسية، كما عمل مستشاراً لرئيسة الحزب الاشتراكى مارتين اوبرى.

تقول «نوفل اوبزر فاتور» ان «الاشتراكيين الفرنسين غير مقتنعين بما جاء فى الكتاب حول فرض ضريبة عالمية (واحدة عابرة للقارات) تصاعدية على رأس المال، والسبب بسيط مفاده أن بيكتى- كما الكثير من الاكاديميين- منقطع عن أرض الواقع».

فى المقابل، فى بلاد العم سام الذى علّم العالم كيف تكون الليبرالية ناجحة، وجد «مستر» بيكتى احتفالاً بكتابه، فقد أخذوه على محمل الجد لانهم يعرفون انه تعلم فى جامعة ماساشوستس MIT التى هى مرجع عالمى بلا منازع فى اختصاصها. كما ان احد الباحثين المتعاونين مع بيكتى، وهو فرنسى ايضا واستاذ جامعى فى بيركلى، حظى بطلب استشارات قدمها الى الرئيس الاميركى أوباما. وفى 14 أبريل الماضى، بيكتى نفسه حل ضيفاً بدعوة من وزير الخزانة الاميركى، ومجلس الاقتصاديين المحيطين بالبيت الابيض، فصدور الكتاب اتى متزامناً مع اندلاع نقاش اميركى واسع حول اللاعدالة الاجتماعية. الى ذلك يحظى الكتاب باهتمام فلاسفة ومؤرخين وسياسيين اميركيين.

إعلاميا، خصصت «نيويورك تايمز» 6 موضوعات على الأقل للكتاب، وحظى بافتتاحية كتبها الشهير الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد بول غروغمان، الذى رحب بالكتاب واحصاءاته واستنتاجاته.

والنقاش هناك يتمحور حول عدة أرقام مثيرة، مثل ان نسبة 1٪ من السكان حظيت فى 2012 بما نسبته 22.5٪ من المداخيل الأميركية الكلية، وهذه النسبة غير مسبوقة منذ 1928.

أكثر من ذلك، إذ يؤكد بيكتى ان نسبة 0.1٪ من السكان تحظى بـ 10٪ من الدخل القومى، فيما كانت نسبة السكان تلك 2٪ قبل 20 سنة. وتلك النسبة القليلة من الأغنياء تربح 100 مرة مضاعفة مقارنة بالمتوسط العام للربح المتعارف عليه.

لكن بعض الليبراليين المستقبلين للكتاب بترحاب لا يوافقونه بعض التوصيات، لا سيما الضريبية منها. لذا خصصت فايننشال تايمز نقداً لاذعاً مشككة فى الأرقام وغير مقتنعة بالفجوات المذكورة فى الكتاب بين الأغنياء والفقراء. ودافعت الصحيفة الاقتصادية الأشهر فى العالم عن النظرية الليبرالية مجدداً لتؤكد ان آليات «السوق الحر» تضيق الفجوات ولا توسعها. بيكتى يرد: هذا مضحك: فالإحصاءات متوافرة على النت وللجميع ان يتحقق منها.

عودة إلى النشر والانتشار، فقد وضعت نيويورك تايمز الكتاب فى رأس قائمة منتقاة، وأمازون تشهد على الطلب المتزايد لشراء الكتاب «أون لاين»، وها هى دور نشر حول العالم تتهافت على الترجمة.

فبعد صدور الترجمة الاسبانية، تُنتظر فى سبتمبر المقبل الترجمة الألمانية، وبالصينية فى الخريف المقبل، لتكر السبحة وينشر الكتاب بـ 30 لغة فى سنوات قليلة، وتقول دار النشر الفرنسية Le Seuil:انه حدث عالمى غير مسبوق فى عالم نشر الكتب الاقتصادية.

أما بيكتى المتواضع فتراه متنقلاً من عاصمة إلى أخرى مع أدوات خطاب واقناع مختلفة بين هنا وهناك، فهو مقتنع ان النجاح الأميركى للكتاب متعلق بالأزمة وتداعياتها وبصلة ما بحركة «احتلوا وول ستريت». اما فى المانيا فيتحدث الكاتب عن سرعة ثراء الأثرياء مقارنة بسرعة استدانة الدول، مما يدغدغ انجيلا ميركل الحريصة على لجم الدين العام الأوروبى والداعية الى التقشف العام.

وفى أميركا اللاتينية تنتشر أفكار بيكتى أيضاً، مما دفع وزير مالية تشيلى الى زيارة الكاتب فى فرنسا، كما ان رئيسة تشيلى قالت انها تعدل النظام الضريبى وفقاً لبعض استنتاجات الكتاب ليرتفع الاستقطاع من 18٪ من الناتج الى 21٪.

وبيكتى يزور الصين فى الأيام المقبلة ويحل ضيفاً رسمياً، حيث القلق المتعاظم من اتساع فجوات اللاعدالة بسرعة قياسية. وفى بكين جهد أكاديمى هائل مطلوب من السلطات الرسمية لدراسة هذه الظاهرة المقلقة. ويقول بيكتى: لا يستطيع الصينيون الاكتفاء بمحاربة الفساد بين صفوف أعضاء الحزب الشيوعى الحاكم فقط، انهم مجبرون عاجلاً أم آجلاً على فرض ضرائب متصاعدة.

هل هو مهووس ضرائب؟ يرد ليؤكد انه ليس مع خنق الاقتصاد بالضرائب. لكل بلد حاجة. ففى فرنسا حاجة ماسة لعصرنة التعليم واشراك القطاع الخاص فى ذلك. ويضرب مثلاً كيف ان مجموعة خاصة ساهمت بمال رفع مستوى مدرسة الاقتصاد فى باريس (جامعة)، التى تعد بين الأفضل فى اختصاصها عالمياً.. وهذا المديح للقطاع الخاص يعنى ان بيكتى براغماتى أيضاً.. وهنا بيت القصيد.