عمال التراحيل عايزين «الستر» ولقمة العيش بس
قد يسعد أى مرشح للرئاسة- للوهلة الأولى- عندما يعلم أن هناك شريحة عريضة من الشعب المصرى- كعمال التراحيل- لا تريد منه شيئا، فغايتهم الأولى والاخيرة هى «الستر» إلا أن هذه السعادة لا تنبرى أن تتحول إلى كابوس على رأس أى رئيس قادم إذا دار حديث بينك وبين ابسط رجل فيهم، لتعلم علم اليقين أنهم أرادوا السهل الممتنع، فالستر لديهم ليس بمعناه الصوفى المنفصل عن ملذات الحياة ومطالبها ولكن يعنى كل ما يمكن أن يطالب به المتخصصون من حقوق للعمال وفى مقدمة ذلك العمل الثابت دون الامتهان لآدميتهم، يليه التأمين على حياتهم من أى مكروه خاصة ان نسبة تعرضهم للأذى عالية، إضافة إلى معاش لحفظ ماء وجههم مع التقدم فى السن.
هؤلاء الرجال الذين لا تخلو منهم ميادين القاهرة والذين جاءوا من مختلف المحافظات لضيق العيش بها، أخرجهم الفقر على كره إلى القاهرة، آملين فى لقيمات الكفاف لتظلهم الظروف الاقتصادية المريرة بظلال البطالة والفقر والغربة بل وفقدان الامن بعد الثورة لتكتمل لديهم اسباب فقدان الامل فى المسئولين والمستقبل.
استوقفنا محمد عبدالفتاح رجل فى الأربعينات من عمره يروى لنا رحلة قدومه من الفيوم، بعدما غلقت كل ابواب الرزق فى وجهه ووجد انه لا مفر من السفر على الرغم من صغر أولاده وحاجتهم الماسة إلى البقاء بجوارهم فقدم إلى القاهرة بمساعده احد جيرانه واشترى العدة وهى عبارة عن ازميل وأجنة وجاكوش ومرزبة كما استطاع ان يحصل على غرفة مشاركة مع اربعة عمال بثلاثين جنيها فى الشهر
يستيقظ عم محمد مع فجر كل يوم ليصطف على رصيف الجزيرة فى شارع فيصل فى انتظار اى بيه-على حد تعبيره- او ريس عمال ليختاره من بين العشرات للعمل معه، سواء مقاولة أو يومية وكله حسب النصيب فكثرا من الأيام تمر ولا يأتى أحد او يأتى من يختار غيره، لينتظر حتى الظهيرة بين يأس الانتظار ومرارة الرجوع إلى البيت بخفى حنين فالمشكلة لديه ليست فيه ولكن فى الفراخ الجائعة اللى فى البيت- فى إشارة إلى اولاده- مطالبا رئيس مصر القادم بتقوى الله فى الغلابة والنظر إليهم بعين العطف فكل ما يرجوه أن يعمل كل يوم حتى يستطيع أن يوفر مطالب زوجته وأولاده.
على عكس ذلك لا يريد محمود السيد اى شىء من رئيس مصر المحتمل لانهم كاذبون على حد رأيه وأن كل ما نقوم به حتى هذا التحقيق الذى يتناول ظروفهم ومآسيهم لا يعلو عن كونه كلاما فى كلام فلا رئيس سيشعر بهم ولا مسئول سيهتم بأحوالهم فقد جاءت الصحافة والتليفزيون وصوروا معهم وشاهدوا فى التليفزيون حديث المسئولين والوعود بمساعدة محدودى الدخل ولا جديد فالحال من سيئ إلى أسوأ قائلا: احنا ملناش دخل اصلا يوم شغل وعشرة لا، والبيوت محتاجة تقدرتقولى هتعمل إيه خمسين جنيه كل عشر أيام؟ هنسرقوا ولا عيزينا نعمل إيه بالظبط؟
عبد الوهاب البنا ليس حاله بأفضل مما سبق بالرغم من ان اجرته اليومية ضعف اجرة العامل فهو يتقاضى عن اليوم الواحد 120 جنيها نظرا لاحترافه البناء إلا أنه يشارك باقى العمال نفس الرصيف ونفس كأس البطالة فأيام الجلوس على الرصيف بدون عمل تأكل أيام العمل ولا يتبقى سوى القليل جدا لأولاده خاصة أنه متقدم فى السن ويعول أسرة من سبعة افراد. وبمرارة عميقة يصف لنا عبد الوهاب حالة اليأس التى انتابته بعد الثورة نظرا لقلة ظروف العمل ما اضطره الى تهريب ابنه البكر الى ليبيا للعمل بها بالرغم مما يحمله ذلك من خطر ولكن لا مناص من ذلك فنحن فى بلد لا يشعر احد فيها بهموم الغلابة ولا فائدة فى احد ومالناش غير ربنا، على حد تعبيره وعلى عكس ما قد يعتقده البعض فإن حملة المؤهلات المتوسطة تحتل شريحة كبيرة من بين عمال التراحيل فبالرغم من وجود هذه الفئة قبل ذلك إلا انها زادت بشكل ملحوظ نظرا لقلة فرص العمل مع عدم توافر الخبرة المهنية التى يحتاجها سوق العمل وأن كانوا يشاركون باقى العمل نفس ظروف العمل القاسية إلا أن القسط الذى نالوه من تعليم جعلهم يركزون على أهمية وجود تأمين ونقابة تدافع عن حقوقم والأحقية فى عمل ثابت حتى وإن استمر كعامل تراحيل.
على حسن سائق سابق لأحد المستشارين حاصل على دبلوم تجارة ولدية رخصة قيادة سارية قدم من المنيا الى بولاق هروبا من ضيق العيش وبعد فترة من العمل لدى المستشارأصبح بلا عمل لأن المستشار سافر بعثة وسافر معه حلم الشاب حسن فى عمل يليق به، فبعد رحلة من البحث عن عمل كسائق لم يجد إلا رصيف ميدان الساعة بالطلبية، متسائلا كيف لشاب مثلى ان يعيش مهدد فى أى وقت بانقطاع مصدر أكل عيشه مطالبا بضرورة وجود نظام للعمال يضمن لهم عملا ثابتا ووجود تأمين ضد المخاطر لانه معرض فى أى وقت للموت أو للإصابة بلا تعويض ولا ضمانة لأى شىء.
ينضم إليه على نفس الرصيف اسماعيل مساعد فنى تكييف وحاصل على دبلوم صنايع إلا ان حالة الركود دفعت به إلى الشارع على أمل الحصول على يوم عمل مقابل خمسين جنيها حتى وان كان بيغامر بسلامته فلا أمان لمثل هذه الأعمال على حد تعبيره خاصة أنهم عرضة للأذى فى ظل حالة الفوضى التى تعم البلد بعد الثورة ناهيك عن احساسهم بعدم الأمان لاى حادث إرهابى يطيح بهم ويكونون مجرد أرقام وتنسى.
لم يخلُ رصيف عمال التراحيل من العنصر النسائى فذكاء المرأة المصرية التى تعلم جيدا انه من الصعب منافسة الرجال فى مثل هذه الظروف الصعبة دفعها إلى التفكير فى اتجاه آخر يناسبها، فأم محمد صاحبة- أجمل كباية شاى فى الخمسين- للعمال، يلتفون حولها كالأم التى تعد الفطار لأولادها فى الفلاحين، ورأس مالها عبارة عن عشرات كبايات الشاى الفارغة وكعبوة شاى وكيلو سكر وجردلين لغسيل الكبيات لتغدو أم محمد وتروح بالجنيهات التى ترزق بيها جراء بيعها الشاى وإن كانت تحمل نفس همومهم من عدم توفر الامان لها ولأولادها إن اصابها مكروه.
محمد السيد وابن عمه محمود وخالهم قادهم يأس الحصول على فرصة عمل بالصباح إلى المكوث حتى العاشرة مساء على اضواء السيارات بعد انقطاع النور فى شارع فيصل آملين فى مناداة أحد المارة من اجل تحميل عفش أو تنزيل بضاعة أو أى شىء يحصلون منه على بضعة جنيهات للعشاء مطالبين نظرة العطف لتلخص مطالبهم البسيطة من رئيس مصر القادم فهم من بنو الأهرامات وهم من حفروا قناة السويس وهم الان من يتسولون لقيمات عيشهم فى أحلك الظروف سوادا.