في السماء غيم
08:41 م - الأربعاء 12 أغسطس 2020
كلما تمعنا في موروثاتنا الشعبية من أمثال وحكم ومواقف إنسانية كلما أدركنا كم نحن بحاجة إلى التأمل في كل ما تركوه لنا، نأخذ منه ما يناسبنا في ظرف نحن فيه ونترك ما لا يناسبنا إلى حين، لكنه يظل راسخًا في مخيلتنا وفيما نحفظ من قيم وعادات وتقاليد ومفاهيم عاشوا عليها ردحًا من الزمن.
تغيرت الظروف نعم، وتغيرت القيم، وأصبح التواصل مع العالم الخارجي أكثر رحابة ويسرًا وسهولة، لكن لكل مجتمع قيمه وموروثاته، والمفاهيم التي يستقي منها مواقفة وآراءه التي يبنى على أساسها وطنه اقتصادًا وتجارة وثقافة وسبل عيش...
«في السماء غيم» عبارة تقال عندما لا يأخذ أحد المتحدثين باله في وسط مجموعة من الناس ويكون الحديث عابرًا لكنه يمس من قريب أو بعيد أحد الجالسين، فيتبرع أحد المستمعين فيطلق هذه العبارة «في السماء غيم» فينتبه المتحدث دون أن يسأل، فيتوقف عن الكلام المباح ويدير الدفة إلى حديث آخر لا يمت لما قاله سابقًا بأي صلة حتى تتضح له الرؤية، وربما يعتذر أو «يطنش» والخير في أن يخوض في حديث آخر لا صلة له بما سبقه، وبذلك يخرج من الحرج، والفضل في ذلك يعود إلى من أطلق هذه العبارة «في السماء غيم» ليجنب المجلس الحرج، وبالتحديد صاحب المجلس الذي هو بالضرورة أكثر من يتحمل المسؤولية.
هذه العبارة وغيرها من العبارات يستخدمها حكماء القوم الذين يجنبون الناس سوء الاختلاف، وربما العداوة والبغضاء والشحناء، مع الحرص على الهدف والغاية التي قد ينشدها الناس بصفاء نية وإصلاح ذات البين، وتجنب التداعيات المؤثرة على علاقة الأفراد بعضهم البعض.
ما أحوجنا في هذا الزمن إلى التكاتف والتعاون والتآزر، وإصلاح ذات البين، والحرص على القول والفعل الذي يقرّب الناس من بعضهم بعضًا ويتيح لهم المجال للتفاهم والتعاون والمؤازرة «إن النار من مستصغر الشرر»، فربما كلمة تصلح ما فسد بين الناس وتعيد الثقة إليهم..
قد لا يملك أحد منا مشاعره، غضبًا أو حبًا أو كرهًا، في لحظة من لحظات الضعف البشري، لكنها ستظل تلازمه ربما إلى ردح من الزمن، وعندما يتبرع أحد الجالسين فينقذ الموقف بحب وحسن نية وأخلاق الرجال، فذلك هو المطلوب.
هذا لا يعني أننا لا نتصارح عندما يكون الكلام الصريح فيه الفائدة، يصلح ذات البين ويقرّب الناس من بعضهم بعضًا ويزيل ما علق في علاقاتهم من شوائب ومنغّصات آن الأوان للتخلص منها وبناء علاقة جديدة يسودها الحب والوئام.
كلما تعقدت حياتنا وتشعّبت أجد فيما تركه الأجداد والآباء السلوى، وأدهش كيف استطاعوا أن يتغلبوا على ما مر بهم بالصبر والأناة والحكمة، ودعوني أعزائي القراء أشارككم في آيات القرآن الحكيم الذي نجد فيه ولله الحمد ما يثلج الصدر ويطيب الخاطر، ويجعل إيماننا بالله سبحانه وتعالى هو العلاج لكل ما يسبب ضعفنا البشري ويكدر صفاءنا وينغّص علينا حياتنا، هي آيات من الذكر الحكيم فيها كل ما يدخل السرور إلى نفوسنا ويعيد إلينا الثقة في ذاتنا، ويجعلنا نعمل بكل جد واجتهاد لإقامة علاقات وثيقة بيننا. قال تعالى: «وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون» سورة هود الآية 117. وقال تعالى: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين» سورة هود الآية 118. وجاء في التنزيل «إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأنَّ جهنم من الجنَّة والنَّاس أجمعين» سورة هود الآية 119.
وقال تعالى: «فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين» سورة يوسف الآية 64. وقال تعالى: «الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار» سورة الرعد الآية 8. وقال تعالى: «إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له، وما لهم من دونه من والٍ» سورة الرعد الآية 11. وقال تعالى: «وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار» سورة إبراهيم الآية 34.
إن الرجوع إلى عقيدتنا السمحة والتأمل في القصص القرآنية وذكر تاريخ الأديان والأمم التي سبقتنا يفرض علينا الحرص على العظة والعبرة، لتسيير حياتنا وحياة من نعيل بتعاوننا مع بعضنا في مجتمعاتنا الآمنة المطمئنة، بما يحفظ بلادنا ويصون أمنها واستقرارها وعيشة مواطنيها..
إن القيم الموروثة في مجتمعاتنا هي بمنزلة المراجع التي يمكن العودة إليها للاستفادة بما فيها من حكم وأمثال إنما بُنيت عبر تراكم السنين وتراكم الخبرة لدى الأجداد والآباء لبناء الأوطان.
كان الحرص على العلاقات الإنسانية بينهم هو ديدنهم، وكانت رغبتهم في التغلب على المنغّصات مجتمعين هو شعارهم، وتمثل ذلك في جيرتهم الصالحة وفي صداقاتهم الوثيقة وفي إخوتهم الخالصة من الماديات وتجرّدهم من كل ما يكدر الصفو في العلاقات بينهم.. ولذلك فإننا بحاجة دائمًا لأن نختار الكلمات والعبارات التي لا تثير الشحناء والبغضاء بين الناس، ولا ضير في استخدام «التورية» وغيرها من التعابير اللغوية التي تزخر بها لغتنا العربية ولهجاتنا المتعددة، من مثل قولنا «في السماء غيم».
وعلى الخير والمحبة نلتقي.