نَمْ قرير العين بو حسن
10:47 م - الأربعاء 16 يناير 2019
هذه هي الدنيا إقامة وارتحال، وتبقى في مخيلتنا الذكرى، نسترجع فيها سيرة الراحلين ومن تربطنا بهم علاقات ممتدة تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.
كان ذلك صيف عام 1968م يوم قطعت المسافة من فرضة المنامة إلى مدينة الخبر بالمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية عن طريق «اللنج» الخشبية التي تقل المسافرين من البحرين إلى الجارة الشقيقة السعودية قاصدًا دولة الكويت لإتمام دراستي الجامعية ومن الخبر توجهت إلى الكويت عن طريق الحافلات التي كانت تقف في الدمام ولا يتحرك الباص إلا عندما يكتمل الركاب، وكانت رحلة ملؤها الأمل والتطلع إلى المستقبل، وإن كان الطريق لا يخلو من التوجس والخوف من الفشل رغم الإصرار على مواجهة التحدي بكل ما يحمله من مفاجآت، كان مقصدي في الكويت أن أصل إلى الرميثية، حيث سكن الخال حسن بن عبدالله العلي الذي كان يشغل وظيفة مراقبًا ببلدية الكويت والذي كان ينتظرني هو وزوجته أم نجيب «حصة بنت سند الدوب» وابنيه نجيب وعادل في بيت تظلله المحبة وتشيع في جنباته روح الألفة والترحيب بالأهل من كل منطقة الخليج العربي، وما أن وصلت وإذا بالأسرة كلها تعتبر يوم وصولي عيدًا... وفاتحني خالي حسن بضرورة التقدم بأوراقي إلى جامعة الكويت وكانت حديثة العهد بما ضمته من خبرات كويتية وعربية وأجنبية مشهود لها بالعلم والتخصص الدقيق. وكانت أوراقي قد تقدمت بها إلى جامعة دمشق العريقة، ووعدت خالي بالنظر في الموضوع وعندما حطت أقدامي مدينة دمشق في اليوم الثاني تسلمت أوراقي عاقدًا العزم الرجوع إلى دولة الكويت والالتحاق بجامعتها بناءً على رغبة الخال وكوني علمت بالتحاق عدد كبير من طلبة وطالبات البحرين بالجامعة وكان المرحوم طيب الله ثراه صالح شهاب ينسق جهوده مع التربية والتعليم بالبحرين لالحاق الطلبة وتأمين سكنهم وإقامتهم. وكان خالي حسن مصرًا على أن أبقى معه في البيت، وكان يرحمه الله كل صباح يأخذني بسيارته الخاصة إلى الجامعة في الخالدية، وعندما ينتهي اليوم الدراسي يمر عليَّ بعد دوامه ليأخذني إلى البيت في الرميثية. وكان نجيب وعادل فرحين بوجودي بينهما إلى أن علم الصديق يرحمه الله عثمان بن عيسى العصفور بهذا المشوار اليومي فأشفق على خالي وعليَّ وأصر على أن يأخذني إلى الأستاذ عيد اليعقوب رئيس شؤون الطلبة الوافدين بجامعة الكويت، ويطلب منه تأمين سكن لي في الشويخ أسوة بزملائي الطلبة البحرينيين.
أصر الشيخ عثمان بن عيسى العصفور أن لا يغادر مكتبه قبل أن يؤمن لي الأستاذ عيد السكن الطلابي وقد كان ولما أبلغت خالي بالخبر تكدر، وكذلك زعل نجيب وعادل وشعرا بأن أخًا لهم قد ترك بيتهم، غير أن الخال أصر على أن أزورهم أسبوعيًا وأبقى معهم يوم الخميس والجمعة من كل أسبوع، وكنت أخذ وسيلة المواصلات النقل العام من ثانوية الشويخ إلى الرميثية أسبوعيًا وهكذا كان الخال وعائلته قد أشعروني بأني لم أفارق البحرين، وحتى عندما عزمت جامعة الكويت أن ينظموا لنا رحلة في عطلة الربيع إلى تونس والجزائر ويساهم الطلبة ببعض مصاريف الرحلة نقدًا تبرع رحمه الله بتحمله كافة مصاريف رحلتي الطلابية، شعورًا منه بضرورة استفادتي العلمية من هذه الرحلة في ربيع 1968م.
لا غنى لنا عن أهلنا فمهما بعدت أجسادنا تظل العلاقات بين الأهل وثيقة فرابطة الدم لا يمكن أن تغيرها الظروف والأوضاع، وعلى قول أخوتنا المصريين: «عمر الدم ما يبآش ميه»...
عادل بو حسن الإنسان البسيط الذي وجد نفسه يومًا بعد وفاة أبيه وأمه وأخيه في مواجهة الحياة بكل تعقيداتها وظروفها ارتبط بأسرة كريمة من بيت سيار بالمصاهرة ليكون أسرة تخدم الكويت وأهلها ويواصل مشوار عطاء والده وأخيه متحملاً عبء المسؤولية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
حتى إذا ما جاء الغزو البغيض إلى الكويت صيف عام 1990م وجد عادل بوحسن نفسه متمسكًا بتراب الوطن الذي ولد وعاش فيه ومن أجله رغم مرارة الظروف وملابساتها والخطر المحدق بهم من كل جانب، وموجات التفتيش الممنهجة والمباغته لكنه ظل محافظًا على أسرته، متطلعًا إلى ذلك اليوم الذي تنزاح الغمة عن تراب الوطن العزيز وتعود الكويت كما كانت أبية مؤمنة برسالتها الوطنية والقومية والعروبية والإنسانية، وقد كان وعندما حانت ساعة التحرير وعادت الكويت إلى حضنها الدافئ في ظل حكامها آل الصباح الكرام البناة الأوائل الذين أسهموا في التعليم والثقافة والتنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وكانوا ولا زالوا سندًا لخليجهم العربي وأمتهم العربية والإسلامية، كانت أول زيارة لعادل وأسرته بعد التحرير إلى البحرين ليلتقي بأهله ويطمئنهم على سلامته وليؤكد لهم أن الكويت والبحرين شركاء في كل ما يعود على البلدين من خير وعلى شعبيهما من روابط الأخوة والمحبة الدائمة من وشائج لا تغيرها عوادي الزمن.
ظل عادل بوحسن يخفي عن أعز الناس إليه حقيقة المرض الذي ألم به، وظل مؤمنًا بالله سبحانه وتعالى بأن يمن عليه بالشفاء لكن إرادة الله جلت قدرته أرادت لعادل أن يكون قرير العين، وأن ينهي رحلة العمر مطمئنًا على مستقبل أبنائه، حسن وعلي ونجيب، وغدير، وعبير، وحصة، ولولوة، وشهد وأن يكون راضيًا بقضاء الله وقدره، فإلى جنة الخلد يا أبا حسن رحمك الله وغفر لك وألهمنا وذويك جميل الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وعلى الخير والمحبة نلتقي..