السوق العربية المشتركة | الأزمات العالمية وكفاءة أسواق المال

السوق العربية المشتركة

الإثنين 18 أغسطس 2025 - 18:53
رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
نائب رئيس مجلس الإدارة
م. حاتم الجوهري
الأزمات العالمية وكفاءة أسواق المال

الأزمات العالمية وكفاءة أسواق المال

اعتدنا مع كل أزمة تمر بالدول الكبرى تأثر الأسواق العالمية بتطورات تلك الأزمة وكنا نلاحظ مبالغة الأسواق فى التأثر السلبى خصوصا مع أزمة الرهن العقارى والديون الأمريكية لاحقا والتى أثرت جميعها بشكل واضح على دول العالم وبشكل اكبر للتى لها استثمارات بالسوق الأمريكى، وكنا نلاحظ أيضا تعافى تلك الأسواق وبقوة بمجرد نشر أخبار وتصريحات ايجابية تتعلق بتأجيل انفجار فقاعة تلك الأزمة! لكن ألم يكن ملاحظاً أن الأسواق المالية العالمية لم تتأثر بقوه بأزمة الدين الأمريكى الأخيرة كما حدث بالأزمات السابقة؟



إننا جميعا يجب ألا ننكر أن أزمة الدين الأمريكى كبيرة وأثرها السلبى لا يقتصر على المواطن والسوق الأمريكى بل يمتد لمعظم دول العالم خاصة أن كبريات الاقتصادات العالمية مستثمرة بالسندات والأسواق الأمريكية، وان قرارات رفع سقف الدين العام وطباعة الدولارات ما هو إلا تأجيل لها وزيادة فى حجم كرة الثلج!

ولكن ما يجب التنويه عنه فى شأن تفاعل الأسواق المالية مع تطورات هذه الأزمة انه مع تطور وسائل الإعلام وانتشار الثقافة التى تسير أسواق المال وانكشاف ممارسات كبار مديرى المحافظ والصناديق والمضاربين بالمبالغة مع الأخبار السلبية لخلق فرص اقتناص لم تعد تنجح فى توجيه المتداولين خصوصا فى الأزمات التى أصبحت متكررة ويعلمون مسبقا بنهايتها وهى موافقة الكونجرس على رفع سقف الدين!

ففى يناير 2010 كان الجميع يترقب ما سيحدث بمشكلة رفع سقف الدين الأمريكى إلى أن أعلن فى نهاية الشهر عن الموافقة على رفع السقف لـ14.3 تريليون دولار، ثم تفاعلت الأسواق سلباً فى منتصف عام 2011عندما وصل الدين الأمريكى إلى الحد الأعلى وإبراز وسائل الإعلام لمعارضات من بعض أعضاء الكونجرس على رفع السقف وكأن لديهم حلولا فعالة للأزمة! وفى النهاية وبعدما خسر بعض المتداولين وأصحاب التسهيلات وافق الكونجرس على رفع سقف الدين إلى (16.7) تريليون دولار، قفزت تلك الأسواق بمستويات كبيرة «مصحوبة بضحكات عالية» توحى بانتصار كبار المضاربين على صغار المتداولين وملاك المحافظ المسيلة من البنوك! هكذا كانت مشاهد اقتناص الفرص بالتخويف فى سوقنا وأسواق أخرى لتحقيق مكاسب بافتعال الانهيار.

وما يجب التنويه عنه فى مشروع الموافقة الحالى على رفع سقف الدين العام إلى انه هذه المرة تأخر كثيرا إلى قرب بلوغ السقف الأعلى للدين وهو ما ترتب عليه إغلاق بعض المكاتب الفيدرالية ومنح معظم الموظفين إجازات غير مدفوعة الأجر وربما ذلك للضغط لسرعة تمرير الموافقة، لكون العمل المنظم بتلك الدول المتقدمة يقتضى المبادرة مبكرا بطلب رفع سقف الدين وإعطاء فترة معقولة للمناقشات خاصة أن الوضع لا يسمح للحكومة بتخفيض النفقات الصحية والتأمينات الاجتماعية علاوة على تأثير ذلك السلبى على النمو الذى تسعى الحكومة لرفع معدلاته لتخفيض البطالة ورفع الإيرادات العامة.

ومع القناعة بأن طبيعة التجارة بأسواق المال تقتضى التجديد والتطوير فى ممارسات كبار المضاربين ومديرى المحافظ لخلق فرص الشراء فى ظل ارتفاع وعى معظم المتداولين، فان الملاحظ مع بداية التداول الإعلامى لأزمة الدين الأمريكى الأخيرة قبل أسابيع محاولات الأسواق العالمية والمحلية النزول كالمعتاد منها وكتعامل مع خبر سلبى سيهز أسواق العالم، إلا أنها هذه المرة لم تنجح فى ذلك بسبب امتناع معظم المتداولين عن البيع خصوصا بالشركات الاستثمارية ذات التوزيع الجيد بل إن بعضهم اقتنص فرص إنزال أسعار أسهمها بالشراء والتبديل مع شركات متضخمة لانكشاف نهاية هذا الفيلم الذى يتكرر عرضه كلما استنفدت الحكومة الأمريكية الحجم المتاح لها من الديون وبتفاعل غريب عبر رفع قسرى للسوق الأمريكى كلما ارتفع حجم الدين العام وطبع الدولار وليتحول التساؤل إلى حقيقة قيمة العملة التى تقيم بها أسعار أسهم تلك الأسواق.

تزامنت هذه الاحداث مع ذهاب جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2013 إلى ثلاثة امريكيين، تكريماً لأعمالهم بشأن الاسواق المالية، فى حين الاقتصاد الامريكى يمر بأخطر التحديات، وقد تعجز الدولة عن ادارة معظم مرافقها خلال الفترة المقبلة.

منذ طرح أول شركة مساهمة فى هولندا قبل أكثر من 400 عام وافتتاح أول سوق أسهم فى العالم، سوق أمستردام، والأبحاث والدراسات تتوالى فى محاولات لفهم طبيعة تحركات أسعار الأسهم، وغيرها من الأوراق المالية. من المفترض أن تعكس أسعار الأسهم الأوضاع المالية للشركات والحالة الاقتصادية السائدة وما يتوافر من معلومات وأخبار، وأن تعبر الأسعار بشكل دقيق عن القيمة الحقيقية لتلك الشركات. غير أن العملية ليست بهذه البساطة، الأمر الذى دفع اللجنة القائمة على جائزة نوبل لمنح جائزة نوبل التذكارية فى مجال الاقتصاد لثلاثة باحثين أمريكيين متخصصين فى دراسة أسعار الأوراق المالية، كل بطريقة مختلفة ومتضاربة أحياناً.

تطرقت عدة مرات لمفهوم كفاءة الأسواق المالية فى مقالات سابقة تلك الفكرة التى ينادى بها البروفيسور فاما، أحد الفائزين الثلاثة، التى تقول: إن أسعار الأسهم فى أى وقت من الأوقات مسعرة بأفضل الأسعار الممكنة، وألا جدوى هناك من الحديث عن أسعار مرتفعة أو منخفضة، فجميع الأسهم مسعرة بسعرها العادل فى أى وقت من الأوقات. غير أن بروفيسور شيلر لا يتفق مع ذلك بشكل كامل، بسبب كثرة المشاهدات، التى تشير إلى أن الأسعار تخالف الأساسيات المالية للشركات، وتستمر مخالفة لها لمدة طويلة نسبياً. فلو كانت الأسواق ذات كفاءة عالية، فمن المفترض ألا تفترق الأسعار السوقية عن الأسعار «الحقيقية» للشركات.

المعضلة الحقيقية هنا هى كيف لنا معرفة الأسعار «الحقيقية» لنتمكن من معرفة ما إذا كانت الأسعار السوقية صحيحة أم لا؟ هذا سؤال مهم جداً. المشكلة التى أرهقت بروفيسور شيلر هى أنه عندما قام بدراسة حركة أسعار الأسهم الأمريكية لعدة عقود، وقارن ذلك بربحية الشركات والأرباح الموزعة، وجد أن الأسعار تجنح كثيراً عن الحقائق المالية للشركات، بينما من المفترض أن يكون هناك علاقة وطيدة بينها، حسبما تزعم فرضية كفاءة السوق، التى ينادى بها فاما! بل إن شيلر وجد أن هناك فقاعات مالية عديدة، وهى التى تحدث عندما يكون هناك تضخم فى أسعار الأصول إلى درجة غير معقولة ويعقبها انفجار لهذه الفقاعات ينتج عنها خسائر كبيرة للمستثمرين. فكيف يمكن أن نتحدث عن أسواق كفاءتها عالية، بينما الحقائق التى أمامنا على أرض الواقع تقول عكس ذلك؟

علينا أولاً أن ندرك أن كلا من فاما وشيلر متفقان على أنه من الصعب - وربما المستحيل - التنبؤ بتحركات أسعار الأسهم على المدى القصير، وكلاهما يؤمن بالممشى العشوائى لحركة الأسهم، بمعنى أن أسعار أمس ليس لها علاقة بأسعار اليوم إطلاقاً، وهو المجال الخصب للتحليل الفنى الذى يراهن على معرفة ذلك. غير أن فاما يرى أن الأسعار تعكس الواقع فى كل الأوقات، حتى إن كان هناك «فقاعة» فهى تأتى نتيجة ما يتوافر من معلومات لدى المتعاملين وأن هذا لا يخالف مفهوم كفاءة السوق. صرح فاما عدة مرات بأنه لا يؤمن بالفقاعات ولا يعرف ما الفقاعات! وقد يستغرب البعض موقفه هذا، غير أن فاما مؤمن تماماً بما يقول، ووجهة نظره هى أن ما نسميه فقاعة فى الواقع أننا لا نعرف أنها فقاعة إلا بعد أن تنفجر، لذا من الصعب القول بأن ما لدينا فقاعة قبل أن تكون بالفعل فقاعة. بمعنى آخر، ما الفائدة من الإشارة إلى فقاعة فى الأسهم إن كانت هذه الفقاعة ستستمر لعدة سنوات؟

فى المقابل، نجد أن شيلر يؤمن بالفقاعات المالية، كيف لا وهو من أصدر الكتاب المشهور «ابتهاج غير عقلانى»، الذى صدر فى الشهر نفسه الذى انفجرت فيه فقاعة الأسهم الأمريكية عام 2000، وفيه يشرح كيفية تشكل الفقاعات ويحذر من مخاطرها؟ وهو كذلك من تنبأ بجدارة بفقاعة قطاع العقار فى أمريكا، التى تسببت فى الكارثة المالية عام 2008. إذاً نجد أن نقاط الاختلاف بين الشخصين تأتى فى كون فاما يؤمن بأن الأسواق تتمتع بكفاءة عالية وتعكس كفاءة الأسعار التى لا يوجد تسعير أفضل منها، بينما شيلر يشك فى ذلك ويبحث عن تفسيرات علمية وعملية يمكن الاستفادة منها.

من المهم إدراك مدى تأثير تفكير فاما على المستثمرين ومتخذى القرار فى الحكومات، حيث لجأ المستثمرون إلى صناديق المؤشرات وأسهم المؤشرات كبديلين للاستثمار المباشر فى الأسهم، وذلك لأنه إن كان من الصعب معرفة تحركات الأسهم، فالأفضل الاستثمار فى السوق ككل، والقبول بعائد السوق، وعدم محاولة التغلب على السوق نفسه. فتجد أن هناك صناديق تستثمر فى جميع شركات إس آند بى 500، أو بعينة ممثلة لها، أو فى سهم يحاكى حركة مؤشر قطاع كامل، بدلاً من محاولة انتقاء أسهم شركات بعينها. أحد المؤمنين بتفكير فاما، بروفيسور مالكيل، عرف عنه عبارته الشهيرة أنه لو أغمضنا أعين قرود وجعلناها تقذف حزمة سهام على قائمة شركات، لاستطاعت القرود تكوين محفظة أداؤها لا يختلف عن أداء محفظة تم انتقاؤها بعناية من قبل كبار المحترفين.

كذلك نجد أن تأثير فكر فاما ألقى بظلاله على متخذى القرار فى الحكومات، حيث وجد صانع القرار أن لا حاجة هناك للتدخل فى حركة الأسواق طالما أن الأسواق تتمتع بكفاءة عالية، وتقوم بتصحيح نفسها بنفسها.

لم يتوقف شيلر عند مجرد التشكيك فى صحة كفاءة السوق، بل إنه يحسب له تأسيس فرع مهم من فروع الاقتصاد يعرف بالاقتصاد السلوكى، وهو العلم الذى يدرس تصرفات الإنسان من خلال علمى النفس والاجتماع، لمعرفة تأثير ذلك فى النشاط الاقتصادى، ومنه كذلك تحركات الأسهم. على سبيل المثال، هناك نظريات تدرس حالياً تبين كيف أن الناس تتصرف بفكر جماعى وتتأثر بتصرفات الآخرين، وكيف أن النفس البشرية تبحث عن الحقائق، التى توافق أهواءها لا عن أى حقيقة مطلقة، وإن الناس عموماً ينجذبون إلى الأسهم عندما يرون أسعارها فى ارتفاع، وأنهم يوجدون التبريرات الواهية للدخول فى الأسهم على الرغم من شطح الأسعار بعيداً عن الواقع.

ختاماً، يمكننا اعتبار منح جائزة نوبل لهؤلاء الثلاثة كدليل على صعوبة فهم حركة الأسعار، وأن الطريق لا يزال طويلاً أمامنا فى هذا المجال. بقى أن أشير إلى أن الشخص الثالث هو بروفيسور لارز بيتر هانسن، الذى من خلال أبحاثه فى مجال الإحصاء والنماذج الإحصائية المطورة يمكن للباحثين، خصوصاً فى مجال الاقتصاد السلوكى، إجراء الدراسات التحليلية، التى تساعد على فهم حركة أسعار الأسهم والأوراق المالية بشكل عام.