
محسن عادل
من أين ستأتى الاستثمارات؟! «حرب العملات».. المسمار الأخير فى نعش النظام النقدى العالمى
طرحت الأزمة المالية العالمية التى دخلت عامها الخامس مرة أخرى مسألة مستقبل عملات الاحتياطى باعتباره العملة الدولية الأكثر أهمية فى العالم، وما تواجهه حالياً من تهديدات يرجح أن تقود فى نهايتها الى حرب اقتصادية جديدة سلاحها الفتاك «أوراق النقد»، وفقاً لسيناريوهات وأطروحات لخبراء ماليين واقتصاديين.
ويرى خبراء ان اكبر تهديد يواجه استقرار النظام النقدى العالمى على المدى البعيد يتمثل فى تحول الحديث الحالى عن “حرب عملات” الى صراع حقيقى بين القوى الاقتصادية العظمى البازغة من رحم الأزمة بقيادة الصين والأخرى المهيمنة على عملات الاحتياط فى العالم والتى تنفرد الولايات المتحدة الأميركية بعرشها، الأمر الذى دعا اقتصاديين بوصف هذه الحرب المنظورة بانها المسمار الأخير فى نعش النظام النقدى العالمى.
ولفت هؤلاء الى أن إرهاصات تلك الحرب التى يتوقعها البعض ويستبعدها آخرون، أخذت تظهر مع تفاقم حالات العجز الضخمة فى المعاملات الجارية للولايات المتحدة الأميركية خلال العقود الأخيرة، والتى قوضت الثقة بالعملة الخضراء، ودينها الخارجى المتنامى، الأمر الذى زاد من وتيرة التنبؤات بصورة متزايدة بنهاية سيطرة الدولار، وبالنسبة للكثيرين بدا مصير الدولار محتوماً عقب انهيار سوق العقارات الأميركى فى منتصف 2007 الذى أطلق العنان لأكبر انقلاب فجائى فى الأسواق المالية فى الولايات المتحدة منذ الكساد العظيم.
وكما ثبت، فقد تبين أن الأزمة أبت إلا أن تكون فتاكة بالنسبة إلى الدولار، ولم تكف حتى متاعب القطاع المالى فى الولايات المتحدة التى تطلبت تدخلات حكومية ضخمة، لقلب التفصيلات بصورة حاسمة، وبدلاً من ذلك، ومما يدعو إلى التعجب فإن الأزمة عززت بصورة مؤقتة المركز العالمى للدولار حيث هرب المستثمرون اليه طلباً للأمان، ففى أواخر العام الماضى اشتدت حدة الطلب على أذون الخزانة الأميركية لدرجة أن العوائد انخفضت ورغم ذلك مازال مستقبل الدولار محل جدل حام، وهناك اعتقاد واسع أن الدولار سوف يستأنف دون شك انهياره على المدى الأبعد منهياً سيطرته إلى الأبد.
لكن فى المقابل ترى شريحة أخرى من الخبراء أن ذلك يمثل مصادرة على المطلوب فى قضية حاسمة ما الذى سيحل محل الدولار؟ يقول البعض إنه اليورو، ويقول آخرون ربما الين اليابانى أو “الرينمنبي” الصينى ويطالب البعض بعملة عالمية جديدة للاحتياطى، يمكن أن تقوم على حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولى، وهى أصل من أصول الاحتياطى، بيد أن جميع هذه البدائل المرشحة لا تخلو من العيوب والحقيقة أنه لا يوجد حتى الوقت الحالى وريث شرعى واضح للدولار يكمن فى الأفق، يتربص لكى يحتل مكان الصدارة، ليظل الدولار هو الخيار الأسوأ الى ان تضع الحرب المرتقبة أوزارها.
وربط الكثيرون ما يثار حالياً عن حروب العملات بسياسة التيسير الكمى الأميركية والتى كان لها آثار جانبية على تخفيض سعر الدولار وخلق تدفقات رأسمالية الى الخارج، بالإضافة الى سياسة الصين فى تخفيض سعر صرف “اليوان” وبالتالى الحاجة الى اعادة تقييمه بالسعر الحقيقى.
وأوضحوا أن “حروب العملات” تصاعدت نظراً لأن النظام النقدى الدولى الحالى لا يقدم حلولاً شاملة لقضايا الاقتصاد العالمى بل حلولا مؤقتة، فالدول لها الحرية فى اختيار سياسات أسعار الصرف: الثابت، العائم أو الوسطى، مشيرين الى أن هذا الوضع قد يكون ملائما على مستوى الدول فرادى ولكن ليس من المتوقع أن يكون كذلك على المستوى الدولى.
ووسط احتدام الجدل حول مسارات حرب العملات بدأت المؤسسات المالية والنقدية فى مختلف انحاء العالم ترسم التصورات والسيناريوهات لتحديد ملامح الوريث الشرعى لعملة الاحتياط العالمى المقبلة على خريف جديد تتآكل معه نضورتها وينقشع لونها الأخضر.
واتجه الجدل أخيراً نحو إمكانية إيجاد عملة احتياط عالمية جديدة، على الأرجح اعتماداً على حقوق السحب الخاصة القائمة بالفعل لاسيما بعد أن أقرت الفكرة لجنة تابعة للأمم المتحدة.
ويطرح البعض فكرة اعتماد حقوق السحب الخاصة التى يصدرها صندوق النقد الدولى كبديل للدولار كعملة للاحتياطيات العالمية، الفكرة التى سبق أن دعت لها الصين وطالب بها خبراء اقتصاد عدة فى العالم مع المخاوف المتعلقة بالدولار وبالاقتصاد الأميركى.
بالإضافة الى فكرة الاستفادة من قوة الذهب كأداة للتحوط وحفظ القيمة واستخدامه كجزء من تركيبة حقوق السحب الخاصة.
وتتكون تركيبة حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد حالياً من حصة 41,9% للدولار و37,4% لليورو و11,3% للاسترلينى وحوالى 9,4% للين اليابانى، وتقوم الفكرة المطروحة على تغيير هذه التركيبة لتشمل الذهب بحصة 20% مع خفض حصة الدولار إلى 30% واليورو إلى 20% والين إلى 8% وإدخال عملة الصين اليوان بحصة 15% بما يعكس التحول فى تركز ثقل الاقتصاد العالمى من الغرب إلى الشرق، وهم يقترحون كذلك أن تكون هناك حصة 7% لعملات أخرى وهى الاسترلينى والروبية الهندية.
يجب ان يلتفت الجميع الى خطر رئيسى يمكن أن يتهدد العالم الذى يعتمد اليوم الدولار الأميركى كعملة رئيسية للاحتياطيات العالمية، فالولايات المتحدة مثقلة بأعباء ديون ثقيلة، وهناك ميل تاريخى لدول العالم للتملص من أعباء الديون عبر خفض قيمتها عن طريق طباعة المزيد من النقود ورفع مستويات التضخم، فهذا بالطبع أسهل بكثير لها من العمل على رفع الضرائب أو خفض الإنفاق على التنمية وعلى الجوانب الاجتماعية الأمر الذى يمكن أن يستثير حفيظة شعبها، لهذا فإن هذا ما تقوم به الولايات المتحدة بالفعل فى الوقت الحاضر الأمر الذى يشكل بطبيعة الحال تهديداً للدول الدائنة.
بالتاكيد ايضا فإن النظام المالى العالمى بدوره بدأ يبتعد عن مراكزه الرئيسية فى الولايات المتحدة وبريطانيا إلى مراكز مالية جديدة فى دبى ومومباى وشنغهاى، لذا ففى ظل هذه التحولات ومع بروز اقتصاد عالمى متعدد المراكز بات من الصعب الاعتماد على عملة واحدة كعملة للاحتياطات العالمية، فبحسب نظرية الاقتصادى روبرت تريفين فإن الدولة التى توظف عملتها المحلية عملة للاحتياطيات العالمية يتعين عليها أن تدير عجزاً فى حساباتها الجارية لتوفير السيولة اللازمة للمعاملات الدولية، لكن العجز يجب ألا يكون كبيراً جداً بحيث تضمن استدامة قدرتها على خدمة الدين، الأمر الذى يتعذر تحقيقه وهذا ما يثبته اليوم الوضع فى الولايات المتحدة التى لم تعد بوسعها توفير احتياطيات كافية للعالم.
أن مستقبل عملات الاحتياط ما هى إلا مسألة اقتصاد سياسى، وليس اقتصاداً فقط، خاصة وان العملة الدولية تلعب فى الأسواق دوراً فى تداول النقد الأجنبى، وإعداد فواتير حسابات التجارة، والاستثمارات المالية - وبالنسبة للحكومات، تتمثل وظائفها فى كونها أداة تثبيت لأسعار الصرف وعملة للاحتياطى، ولكن على مستوى السوق تغلب الاعتبارات الاقتصادية بصورة نمطية فى تحديد الخيارات المفضلة، وعلى مستوى الحكومات لا مفر من المقوّم الإضافى للسياسة.