العوض ولا الحريمة
06:40 م - الأربعاء 27 يونيو 2018
المرء مناله القدرة على إقناع نفسه، أو هو يملك من المواهب ما يجعله يلزم نفسه على القناعة، وقد قيل «القناعة كنز لا يفنى».
العوض هو الشيء الذي من الممكن أن يكون بديلًا، وهو من الحلول التي قد تطرأ علينا فتغير حالنا من حال إلى حال، وبدلًا من العوض هو الحريمة وهي في اللغة العربية «الحرمان» والحرمان يقطع صلة المرء بما يطمح إليه ويرغب فيه.
كنا أطفالًا في المدارس الابتدائية عندما كان أمر شراء شيء في الفسحة من مقصف المدرسة يتطلب منك مبلغًا من المال البسيط كي تصطف في الطابور وتأخذ نصيبك مما توفره إدارة المقصف، والبديل كان هو أن تمنحك الوالدة بعض الحلويات وبعض ما تقدر أن تفعله لك قبل الخروج إلى المدرسة، وهي كانت تتصدى للإفصاح لك عن عدم قدرة الوالد على توفير مبلغ من النقود فتقول لك وهي تقدم الحلوى «العوض ولا الحريمة».
تربينا على هذه المفاهيم في جميع مراحلنا الدراسية، حتى إذا صار لنا المجال لاقتحام الحياة ظل هذا القول ماثلًا في أذهاننا فبعد التخرج من الجامعة في بداية السبعينات كان من المهم البحث عن وظيفة للمستقبل، ولما كان أمر الوظائف في ذلك الزمان محدودًا فما عليك إلا القبول بأي وظيفة شريفة تدر عليك دخلًا ثابتًا شهريًا تستطيع من خلاله أن تشق طريقك في الحياة، لأن هناك أمورًا كثيرة تنتظرك، بعضها يتعلق بأسرتك وأقرب الناس إليك في هذه الأسرة، وبعضها يتعلق بمتطلباتك الشخصية وطماحاتك التي لا تقف عند حد معين.
فكان يقال لنا: اقبلوا بأي وظيفة متاحة بغض النظر عن التخصص النظري الذي أنتم تملكونه، أما أولئك الذين تخرجوا من كليات الهندسة والطب والزراعة وغيرها من الكليات العلمية فقد تحددت مهنهم بالتخصص الذي درسوه، ورغم ذلك فإن الطبيب ليس بالضرورة أن يعمل في مستشفيات الحكومة، فهناك مجال للعمل في عيادات خاصة أو يساعده اقرباؤه بفتح عيادة وهي أمور قد تنسحب على تخصصات الهندسة والمحاماة وغيرها.
أما نحن فمن درسنا الآداب فكان علينا أن نقبل بوظيفة يمكن أن ينطبق عليها القول: «العوض ولا الحريمة» وإن كانت وظيفة التدريس هي الأمان لكل من وجد نفسه قد يكون لا سمح الله عاطلًا رغم أنه يحمل شهادة علمية قضى في الحصول عليها سنوات لا تقل عن أربع سنوات من الجد والاجتهاد والصبر على الاحتمال والغربة والتشتت..
دارت هذه الخواطر في بالي وأنا أشهد حفل تخرج أول حفيدة لي هي «شهد أحمد حسن عيسى» من الثانوية العامة القسم العربي بمدرسة النور العالمية يوم الأربعاء 20 يونيو 2018 بفندق الدبلومات وأنا أشاهد تلك المجموعات الطلابية من البنين والبنات الذين قضوا في الدراسة قرابة 12 عامًا ليقبلوا على مرحلة دراسية جامعية تتراوح الدراسة فيها ما بين 4-7 سنوات على الأقل حسب التخصص وما بعد التخصص. ورغم أن كلمة المربي الفاضل الأستاذ أمين حليوه مدير القسم العربي بالمدرسة قد أكد على أهمية وضرورة اختيار الجامعة المعترف بها، وكذلك عدم إجبار أولياء الأمور للطلبة لدراسة تخصص لا يرغب فيه الطالب إلا أن الأسئلة لا تزال حائرة في عقول أولياء الأمور والطلبة على حد سواء.
وقد وجه المربي الأستاذ أمين حليوه بإمكانية المساعدة التي تقدمها وزارة التربية والتعليم فيما يتعلق باختيار الجامعة المعترف بها ومن ثم اعتماد شهادة التخرج من قبل الإدارة المختصة بالاعتماد بوزارة التربية والتعليم، وكذلك معرفة سوق العمل ومتطلباته، مذكرًا بوزارة العمل والتنمية الاجتماعية من خلال الإدارة المختصة بالنظر في متطلبات سوق العمل، إلا أن ذلك ليس بالأمر السهل وإن كان لا بد منه وضرورة السعي للالتزام به وأخذ المشورة، لأن المستقبل هو الأهم بالنسبة لطلبتنا الذين هم مستقبل هذا الوطن.
وأحسب أن كل المدارس الحكومية والخاصة قد خامرهم نفس الشعور، وانتاب طلبتهم وأولياء أمورهم هذا التوجس وهم يحتفلون بتخريج أبنائهم وبناتهم من المرحلة الثانوية ليقبلوا على المرحلة الجامعية وما بعد الجامعية.
هل نتعامل نحن كأولياء أمور هذه الأيام بنفس منطق «العوض ولا الحريمة» إننا مسؤولون أمام الله وأمام الوطن وأمام أبنائنا للبحث عن ما يضمن لهم التعليم والتخصص الذي يخدمهم ويخدم وطنهم وأمتهم وبما يتناسب مع قدراتهم ومواهبهم واستعدادهم الفطري والعقلي؟. إنها بلا شك مسؤولية كبيرة وإن تأجل النظر فيها بعض الشيء، إلا أن واقع الأمر يتطلب منا الاجتهاد وبذل الغالي والنفيس من أجل المستقبل الذي هو بالضرورة بيد الله سبحانه وتعالى، لكننا مأمورون بالجد والاجتهاد وإعمال الفكر لضمان مستقبل أبنائنا سواء كان في الدراسة الجامعية وما بعدها أو الحصول على الوظائف المناسبة لأجيال تأتي، ولذلك فالمسؤولية مشتركة يتحملها الجميع، فالمستقبل يُبنى على أسس قوية وثابتة، تكرس فيها الجهود وتسخر فيها العقول المبدعة، فمستقبل الأبناء هو من مستقبل الأوطان..
ولا أعتقد أن الركون إلى مسألة «العوض ولا الحريمة» هو المعتد به والذي نسير عليه في مستقبل أيامنا، فالطموح يجب أن يكون أكبر، والآمال أكثر اتساعًا والتخطيط يجب أن يكون أكثر دقة، والأحلام ليس لها حدود دنيا، علينا أن نعمل ونعمل، ليس من أجلنا وإنما من أجل أبنائنا وأوطاننا ومواطنينا.
وعلى الخير والمحبة نلتقي