السوق العربية المشتركة | حلاة الثوب رقعته منه وفيه

السوق العربية المشتركة

الإثنين 25 نوفمبر 2024 - 13:49
رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
رئيس التحرير
أشرف أبوطالب
حلاة الثوب رقعته منه وفيه

حلاة الثوب رقعته منه وفيه

 
بغض النظر عن التوسع في هذا المثل «حلاة الثوب رقعته منه وفيه» ومدلوله الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والمالي والسياسي، لكنه يظل حالة أو وضعًا كان معمولًا به عند الأجداد والآباء، ويتلخص مضمون هذا المثل ومعناه، إن الناس لحرصهم على ما عندهم من حاجات وعدم التبذير وشظف العيش، ولأن المرء مطالب بإصلاح ما فسد عنده وما تعرض للعطب فقد كانوا عندما يتمزق شيء من الثوب الذي كان يرتديه الرجل، أو الثوب الذي كانت ترتديه المرأه أن يتم إصلاح هذا العطب بجلب قطعة قماش من نفس نوع وجنس ولون الثوب المراد إصلاحه أو «ترقيعه» لكي لا يظهر نشازًا في منظر الثوب على الإجمال، وكان الشيء عند هؤلاء الأقدمين جزاهم الله خيرًا، تتم المحافظة عليه وإن أصابه عطب، فهناك من هو قد تخصص في إصلاح الملابس أو البسط أو السجاد «الرفاء»، وهناك من تخصص في تلميع القدور وتهيئتها خصوصا ًتلك القدور الكبيرة التي تعد لشهر رمضان أو الولائم في المناسبات الدينية أو الاجتماعية وتطورت الأمور إلى أن أصبح من بيننا من يقوم بإصلاح الآلات لمكائن اللنجات وقوارب الصيد والسفن الكبيرة التي كانت تمخر عباب الخليج العربي بحثًا عن لؤلؤ المحار أو التجارة البينية بين أقطار الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية ومحيطها ودول عديدة مجاورة أفريقية. فكان في كل سفينة واحد أو أكثر ممن تملكوا موهبة إصلاح ما يطرأ على السفينة ومحتوياتها من أعطال تعوق السفر والترحال، وتجنب راكبي السفينة ويلات الغرق وضياع النفس والمال.
 
حتى إذا ما عادت السفن إلى موانئها وبنادرها قامت بين أهل القرية أو المدينة «فزعة» صيانة السفن والاهتمام بها وأخذ كل ما من شأنه إعادتها إلى بريقها ورونقها لكي تكون على أهبة الاستعداد لموسم قادم.
 
وعندما أفاء الله علينا بنعيمه وتغيرت وسائل المواصلات والتنقل وتم استخدام القوارب الحديثة والمكائن المتطورة السريعة وجد أيضًا من بين الأجداد والآباء من تخصص في إصلاح الأعطاب، دون أن يدخل في دورات تدريبية بمفهومها الحديث أو يقوم بزيارة المصانع، وإنما كانت مواهبهم ورغبتهم وحاجتهم في تعلم الجديد دافعًا لهم للتعلم، بل لا نبالغ إذا قلنا الاحتراف والمهنية والتخصص النادر، فكانوا بجد رجالًا أدركوا الحاجة المجتمعية وفطنوا إلى أهمية أن يكون لهم الإسهام الطيب في بناء المهن التي يرتزقون منها والمحافظة عليها، وتوفير ما يستطيعون من تكاليف لا تقوى عليها قدراتهم المادية. وكان أيضًا يطلقون على هؤلاء الذين يقومون بالإصلاح وهم منهم ومن مدنهم وقراهم عبارة ذهبت مثلًا إلى اليوم «دهنا في مكبتنا» بمعنى إن هؤلاء من بينهم، عاملين معهم يعرفونهم ويعرفون حاجتهم واللغة المشتركة التي تجمع بينهم، فيشعرون تجاههم بالتعاطف ويؤمنون بأنهم لم يذهبوا بعيدًا...
 
ولما جاء العصر بسيارات النقل الجماعي وبالذات باصات شركة النفط بابكو مع ظهور النفط في البحرين في العام 1932م وما سمى في وقتها «سالم الخطر» كونه باصًا مأمون الخطر اعتقادًا منهم بما قد يسببه مثل هذا النقل من أخطار وكان تصميمه الآمن أشعرهم بالأمان، فأطلقوا عليه «سالم الخطر» فكان منهم السائقين ومنهم الفني «الميكانيكي» الذي يقوم بإصلاح أي عطب يطرأ على هذا الباص من كثرة الاستخدام، وكانت شركة النفط بابكو قد خصصت إدارة معنية بالنقل في الشركة والتحق بها البحرينيون من المدن والقرى وكانوا على درجة كبيرة من الفهم والإدراك لمسؤوليتهم وواجباتهم والتصرف في حال تعرض الباص لخلل في الطريق أو في المهام الفنية الأخرى التي تقوم بها مختلف وسائل المواصلات في الشركة... وتطورت هذه الخبرة عندما جاءت إلى البلاد السيارات الحديثة بأنواعها وأشكالها وماركاتها ومصادر ورودها ففتحت الكراجات وورش التصليح، واستغل بعض المهرة منازلهم لتكون مقرًا لإصلاح أو صيانة السيارات التي يطرأ عليها خلل أو للصيانة الدورية المعتادة، إضافة إلى أن بعض مستخدمي هذه السيارات يقومون هم بأنفسهم بالصيانة والتنظيف لحافلاتهم الخاصة، خصوصًا تلك الأعطاب البسيطة التي أدركوا أهميتها وطريقة إصلاحها.
 
كانت الحاجة تستدعي منهم بذل الجهد والتفكير في الإصلاح السريع وتوفير مبالغ قد يستفاد منها في موضع ومكان آخر.
 
هذه لمحات وشذرات من أمور كثيرة كان الإنسان في بلادي يقوم بها شعورًا منه بأهمية العمل اليدوي وبشعوره بالزهو والاعتزاز بأن يقوم بإصلاح ما تعرض لتلف في بيته أو سيارته أو فيما يخص أهله أو جيرانه، لأنهم آمنوا بضرورة العمل الجماعي، وهذا طبعًا ميراث اجتماعي وحضاري سار عليه أهل البحرين منذ قديم الزمان.
 
هل تعود عقارب الساعة إلى هذا المفهوم الاجتماعي؟! سؤال مشروع يطرحه المرء على نفسه قبل أن يطرحه على الآخرين، فنحن بحاجة إلى أن نعود أنفسنا على إصلاح الأمور المنزلية البسيطة، وهذه ستقودنا إن شاء الله إلى إصلاح الأمور المعقدة ربما، تذكرت موقف الوالد يرحمه الله عندما كان سنويًا يحرص على طلاء بيتنا في البديع باللون الأبيض للجدران باستخدام «النورة» واللون الأزرق لنوافذ البيت «بالصبغ» فعلمني كيف أخلط النورة مع الماء واستخدام الفرشات لأساعده في طلاء البيت للأمور البسيطة التي ليس بها مخاطرة، ومن هنا يبدأ التعليم منذ الصغر، أمور بسيطة وسهلة لكنها في المستقبل ترسم طريقًا ونهجًا وسلوكًا لنقول بملء فينا «حلاة الثوب رقعته منه وفيه». 
 
وعلى الخير والمحبة نلتقي