المنسف سيد الموقف
01:44 م - الأربعاء 7 فبراير 2018
تتميز أطباق دولنا العربية من المحيط إلى الخليج بأنها تنسب لمطبخ كل دولة، فيفتخر أبناء هذه الدول بتقديم أشهى أطباقها إلى ضيوفهم الأعزاء، ولا غرو مثلاً أن تتشابه الأكلات في دول شمال أفريقيا العربية، تونس، وليبيا، والجزائر، والمغرب وموريتانيا وأن تكون هي القواسم المشتركة في ولائمهم، وكل دولة تنسب التميز لها في الإعداد والتحضير، وهو تنافس شريف، كما أن «المكبوس» سواء باللحم أو السمك أو الدجاج اشتهرت به دول الخليج العربي وتتنافس في إعداده وتقديمه في المنازل والمطاعم وإن كانت كل دولة لديها من الأطباق ما يميزها عن سواها، بل أن منطقة تتميز في تقديم أطباقها عن منطقة أخرى في نفس البلد، «فالمطبق بالزبيدي» تميزت به دولة الكويت، والمملكة العربية السعودية تتميز «بالسليق» و«الجريش» و«الكبسة البخارية»، ومملكة البحرين تتميز «بالعيش المحمر» والعيش هو الرز الذي يطبخ إما بالسكر، أو بعسل التمر «الدبس» فيكون حلو المذاق ويقدم مع السمك المشوي أو المقلي، وقديماً كان يقدم ولايزال أحياناً مع السمك المجفف «المالح» وكان الغواصون الباحثون عن محار اللؤلؤ في زمن الغوص على اللؤلؤ يعتبرونه الغذاء الرئيس؛ لأنه يمدهم بالطاقة التي تعينهم على مشاق الغوص على اللؤلؤ، كما أن البحرينيين أحياناً يسمونه «بالكاذب» لأنه سهل الهضم وعندما تأكل منه بعد فترة تشعر بأنك كأنك لم تأكل شيئاً وهلما جرا نجد أن في اليمن اشتهروا «بالمندي» و«بالمظبي»، وفي مصر «الكشري» و«الفول» و«الطعمية» و«المحاشي»، كما تميزت المغرب بشوربة «الحريرة» وفي لبنان وسوريا اشتهروا «بالمقبلات»، و«الشوارما»، و«المجدّرة» و«المشويات»، بينما تميزت فلسطين «بالمسخن» و«ورق العنب» أو «ورق الدوالي» كما يشتركون مع الأردن في «المنسف» و«المقلوبة»، أما العراق فقد اشتهروا بتحضير أنواع شتى من «التمن» أي الرز، و«الدولمة» و«الكبة الموصلية» و«سمك المسكوف النهري»، وفي السودان يوجد تنوع غذائي يشمل المعجنات والمقبلات ويزداد تنوعها في شهر رمضان.
إنّ هذا التنوع في المأكولات هو تنوع ثقافي وحضاري وأصبحت أطباقنا بعد التواصل الحضاري وانتشار المطاعم في كثير من بلداننا أصبحت معروفة لدينا أكثر من ذي قبل.
وفي يوم حميمي وفي بيت الكرم الأردني بحي الزمالك بالقاهرة استضاف سعادة السفير السيد علي العايد سفير المملكة الأردنية الهاشمية لدى جمهورية مصر العربية ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية يوم الثلاثاء 23 يناير 2018، السفراء العرب والمندوبين الدائمين والأمناء المساعدين بجامعة الدول العربية؛ ليقدم لهم «المنسف الأردني» والذي يعتبر من أشهر الأطباق التقليدية الأردنية والتي تقدم في الولائم الفاخرة الأردنية مع «الجميد» الذي هو عبارة عن حليب مجفف في الغالب من الماعز ويتم عمل منه سائل يرش على الرز واللحم الذي في الغالب يكون من الضاني، ويؤكل باليد طبعاً وقوفاً، وهو تقليد أردني بامتياز. وتم توفير ملاعق لمن لم يعتد الأكل باليد.
كان «المنسف» هو سيد الموقف في مأدبة الغداء التي أولمها سعادة السفير الأردني بمنزله العامر، ولا يكتمل المنسف إلا بعد أن تقدم حلوى «الكنافة» الأردنية ويقال إن منشأها نابلس ومكوناتها السكر، والجبن والفستق وماء الورد والقيمر، وهي نوعان، ناعمة وخشنة.
إنّ المتمعن في ثقافتنا العربية يجد هذا التنوع في أمثالنا ومأثورتنا وعاداتنا وتقاليدنا ومأكولاتنا، مما يدل على التشابه والتماثل بيننا، إضافة إلى الشعر والأدب والرواية والمسرح، ويجد هذا التداخل والتشابه والتماثل والتزاوج في مفردات هذه الثقافة والتي هي من نسيج هذا المجتمع من المحيط إلى الخليج العربي ناهيك عن التواصل الحضاري في وادي النيل، حيث الحضارة الفرعونية وحضارة الرافدين ببابل وآشور والحضارة الديلمونية في البحرين إلى تأثيرات عديدة حضارية وثقافية مرتبطة بالموقع الجغرافي، والجيوبولوتيكي في دول المغرب العربي، والامتداد الحضاري استتبعه تواصل بين من يعيشون على هذه الأراضي، وكانت بالتأكيد قوافل الحجيج إلى الأراضي المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة من بين تلك الجسور التي ربطت بين هذه الشعوب، فتماثلت العادات والتقاليد وإن اختلفت في مفرداتها، كما كان التأثير المتبادل بين الفنون والثقافات وكان ذلك عاملاً مساعداً في تأثيرات شتى، حتى إذا ما وصلنا إلى عصرنا الحاضر فسهلت وسائل المواصلات المتعددة تواصل الشعوب وتعارفها وتبادلها للمنافع فكانت التأثيرات متعددة في كل مناحي الحياة.
إنّ إقامة معارض الكتب في بلداننا كمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته 49 وتقليد استضافة دولة كضيف شرف من بلداننا العربية والبلدان الأجنبية يخلق هذا النوع من التواصل، كما هو معرض أبو ظبي ومعرض الشارقة ومعرض الرياض ومعرض المنامة ومعرض تونس والرباط والجزائر، حيث تبرز الثقافة بكل فروعها وتقسيماتها، ويتم تواصل المؤلفين والمبدعين في تظاهرة حضارية، نبني عليها، كما نشهد في مدننا وعواصمنا كتقليد جميل المدينة المنورة عاصمة السياحة الإسلامية لعام 2017 م وبغداد عاصمة الإعلام العربي التي أقرها مجلس وزراء الإعلام العرب لعام 2018م، ومدينة المحرق بمملكة البحرين عاصمة الثقافة الإسلامية التي أقرها المؤتمر الإسلامي لوزراء الثقافة لعام 2018م.
مناسبات تذكرنا بقيمة تواصلنا الحضاري والثقافي والسياحي والإعلامي وأهمية البناء عليها وتجاوز كل سلبيات الواقع المعاش وتذكير الأجيال بمكانة مدننا التاريخية والحضارية والثقافية، ولاشك أن دراسات ومحاضرات ستخرج من خلال هذه المناسبات وطباعتها وتوزيعها على مراكز البحوث والدراسات والجامعات والمراكز الثقافية والأندية الأدبية من شأنه أن يضيف للباحثين معلومات موثقة ودراسات معمقة وعلمية ومحكمة، كما يمكن الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة في مختلف تقسيماتها من نشر هذه المعلومات والدراسات لتكون في متناول الجميع، وحبذا لو ترجمناها إلى لغات أخرى للعالم وتحديداً العالم الإسلامي، لنعيد التوازن إلى أنفسنا وذواتنا، وندرك المشتركات بيننا وتضاؤل الفوارق والخلافات التي لا تصمد أمام هذا الفيض من العطاء الإنساني الهادف إلى خير البشرية جمعاء.
ولنتمسك بقيمنا وثقافتنا وكل ما هو جميل في حياتنا كما نتمسك بعادات وتقاليد مجتمعية ومفردات حياتية نفخر ونعتز بها ونقدمها لمن يعز علينا، كما نقدم «المنسف» لضيوفنا وأهلنا الأعزاء.
وعلى الخير والمحبة نلتقي