السوق العربية المشتركة | الدكتور إبراهيم نصر الدين.. الخبير العالمى فى الشئون الإفريقية يتحدث لجريدة «السوق العربية المشتركة» عن مشكلة مياه النيل

السوق العربية المشتركة

الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 - 17:37
رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
رئيس التحرير
أشرف أبوطالب

الدكتور إبراهيم نصر الدين.. الخبير العالمى فى الشئون الإفريقية يتحدث لجريدة «السوق العربية المشتركة» عن مشكلة مياه النيل

د. إبراهيم نصر الدين يتحدث للسوق العربية
د. إبراهيم نصر الدين يتحدث للسوق العربية

دول المنابع ليست فى حاجة لمياه النيل.. ولن تستطيع التأثير على حصة مصر من المياه

بعد رفض كل من مصر والسودان التوقيع على اتفاقية حوض نهر النيل منذ عدة شهور، ردود أفعال متنوعة ومتباينة، بل وأحيانا تبدو متصارعة سواء من جانب مصر والسودان من جهة، وسواء من جانب بقية دول الحوض من جهة ثانية وذلك على المستويين الرسمى والإعلامى.



ولما لمياه النيل من أهمية بالغة للشعب المصرى، حيث إن المياه تمس الأمن القومى المصرى فى صميم الأمر، وتعتبر مياه النيل قضية ملحة على الساحة السياسية، حيث إنها تشغل الرأى العام بطريقة مباشرة، حتى إنها كانت الاهتمام الأول للدبلوماسية الشعبية عقب قيام ثورة يناير، حيث سافر العديد من رموز السياسة المصرية إلى دول المنبع محاولين حل المشكلة بطرق ودية وسلمية.

وطالما كانت مياه النيل قضية كبرى، كان لجريدة «السوق العربية المشتركة» أن تضع يدها على المشكلة لتبين للقارئ المصرى ماهية مشكلة مياه النيل، وكان لنا هذا الحوار مع الأستاذ الدكتور ابراهيم نصر الدين، الخبير العالمى فى الشئون الإفريقية، وأستاذ العلوم السياسة بجامعة القاهرة.

فى البداية صف لنا الوضع الراهن فى منطقة حوض النيل؟

فى البداية أود أن أشير أن منطقة حوض النيل تتسم بالعديد من السمات التى تجعلها ساحة سهلة للتدخل الخارجى، هذا فضلا عن موقعها الجغرافى والأهمية الاستراتيجية لها ويمكن اجمال أهم هذه السمات فى أن المنطقة منقسمة بين عرب ودول مرجعيتها انجليزية وأخرى فرنسية، هذا بالإضافة إلى القوميات المختلفة مثل الأمهرا فى إثيوبيا والهوتو والتوتسى فى رواندا وبوروندى.

كما أن دول المنطقة تعانى كلها من صراعات اثنية داخلية، و الصومال مفتتة وإثيوبيا معرضة للتفتيت لولا المظلة الأمريكية، ورواندا وبوروندى انقسام إثنى حاد بين الهوتو والتوتسى، وذات الوضع فى كينيا بين الكيكويو من جانب وبقية الجماعات الاثنية من جانب آخر، وذات الوضع فى أوغندا، والكونغو الديمقراطية وإلى حد ما تنزانيا.

ومن الناحية الدينية المنطقة منقسمة دينيا، فلا يوجد غلبة كبيرة لأتباع دين معين فى بعض الدول (إثيوبيا: مسلمون ومسيحيون)، (أوغندا : صراعات كاثوليكية- بروتستانتية، فضلا عن حركات اسلامية متطرفة) و(كينيا: حركات اسلامية متطرفة سنية، وأخرى شيعية زيدية) والأمهرا فى إثيوبيا يزعمون انتماءهم إلى الأسرة السلمانية، فى حين أن الدينكا- الجماعة الثقافية الكبرى فى جنوب السودان- تنسب نفسها إلى النبى يعقوب عليه السلام.

لكن هل ما سبق يشير إلى أن دول المنبع لها رؤية معينة أو صورة ذهنية تجاه مصر تؤثر على وضعنا المائى وحصتنا فى مياه النيل؟

المشكلة كبرى حيث إن هذه الدول تنظر للعرب ككل ولمصر بنظرة كرسها الغرب فى أذهانهم، فإثيوبيا مازالت تروج لما تسميه خطر الاستعمار المصرى (التاريخى) وجنوب السودان وكينيا تروجان لمقولة العنصرية العربية وبأن العرب تجار رقيق.

وأوغندا رئيسها وبعض كتابها يتحدثون عن أن العرب فى شمال إفريقيا غزاة قدموا من الجزيرة العربية.

ورواندا وبوروندى تذهب بعض الكتابات الغربية والإفريقية إلى أن جماعة التوتسى فى كلتا الدولتين هى من أصول مصرية قديمة بما يعنيه ذلك من دس روح العداء لمصر من جانب جماعة الهوتو، وتنزانيا- وبالتحديد فى جزيرة زنجبار- تروج لمقولة تجار الرقيق العرب من خلال جعل إحدى قلاع تجارة الرقيق مزارا سياحيا، يدين العرب، ومعظم دول حوض النيل تروج لرغبة مصرية فى الهيمنة والاستعلاء إزاء رفض كل من مصر والسودان التوقيع على اتفاقية عنتيبى.

كل هذه الأوضاع جعلت من السهولة بمكان على الدول الخارجية اختراق هذه الدول من جهة، وجعلها ساحة للصراع بل والصدام مع العرب خاصة تلك الدول التى تحمل عداوات للعرب (الولايات المتحدة، وإسرائيل تحديدا).

هل دول المنبع فى حاجة ماسة للمياه، ما يجعلها تؤثر على حصة مصر مستقبلاً؟

إن دول المنبع ليست فى حاجة ماسة للمياه، حيث إن مياه نهر النيل لا تتسم فى كميتها بالندرة، بل العكس فهناك وفرة غير مستغلة، ذلك أن المعدل السنوى لإيراد نهر النيل من المياه يصل إلى نحو 1665مليار م3 لا تستهلك مصر والسودان منها إلا 84 مليار م3 أى نحو 6% من إيرادات النهر والباقى تضيع إما بالبخر أو فى المستنقعات.

وأيضاً غالبية دول المنابع تعتمد فى زراعتها على الأمطار وبنسب تتراوح بين 80% ونحو 95% من الأراضى المنزرعة.

كما أن الاحتياجات المائية من نهر النيل والمعلن عنها من جانب دول المنبع كانت عام 1959 لكل من كينيا وتنزانيا وأوغندا 1.704مليار م3 كيما تغطى احتياجاتها للخمسة وعشرين سنة المقبلة (أى حتى عام 1984)، ثم ارتفعت هذه الاحتياجات لكل دول المنابع إلى5 مليارات م3 فى بداية التسعينيات لتغطى ذات الفترة (25 عاما)، وزادت هذا المطالب مع بداية القرن الحالى لتصل إلى 10 مليارات م3 لذات الفترة المقبلة، وعليه فإن بدء مشروعات التعاون بين دول نهر النيل يمكن أن يسهم فى تلبية مطالب كل الدول، بل يمكن من زيادة حصتى مصر والسودان لا إنقاصهما.

لكن هل تسطيع دول المنبع التأثير على حصة مصر من مياه النيل؟

لا أعتقد ذلك أبداً، وحجتى فى ذلك أن كلا من الدولتين الأعظم أثناء الحرب الباردة لم يبد قدرة على التأثير على المياه كرد فعل انتقامى، ذلك أن مصر قد شيدت السد العالى بعون سوڤيتى، ورغما عن الإرادة الأمريكية والبنك الدولى، فى الوقت الذى كانت فيه الولايات المتحدة تحتضن نظام هيلاسلاسى فى إثيوبيا حتى بداية سبعينيات القرن الماضى، ولم ترد الولايات المتحدة بفعل انتقامى ضد مصر على النيل الأزرق، ثم تغيرت وتبدلت المواقع منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى، فقد تحالف السوفييت مع نظام منجستو فى إثيوبيا فى الوقت التى دخلت فيه مصر فى علاقات وطيدة مع الولايات المتحدة، ولم يقم الاتحاد السوفيتى بأى رد فعل انتقامى من إثيوبيا ضد مصر.

وبالنسبة للصعوبات فهناك صعوبات جمة فى إمكانية إقامة سدود بالشكل المعلن عنه (نحو 50 سداً) على روافد النهر، ذلك أنه من الناحية الطبيعية فإن عمق النابع يتراوح بين300-500م فكيف يمكن بناء سدود فى هذا العمق، وخلال مدة زمنية لا تجاوز عشرة أشهر قبل موسم الفيضان، فقد استغرق بناء السد العالى نحو 10 أعوام وفى أرض منبسطة.

وحتى لو كانت هناك إمكانية فنية لبناء السدود فإن تكاليف بنائها ستكون باهظة، وتفوق قدرة دول المنابع.

ما استفادة تلك الدول فى حالة إقامة مثل هذه السدود بالفعل؟

نقول هنا لو أمكن التغلب على العقبات الطبيعية والفنية والمالية لبناء سدود بهذا العدد، فإن ذلك سيتبعه عدة تساؤلات، كم من مساحات الأراضى سيتم غمرها خلف هذه السدود؟ وكم مليون نازح سيتم ترحيلهم من أراضيهم؟ وبأى تكلفة نفسية واجتماعية ومالية؟

ثم إن غالبية الأراضى التى تندفع منها المنابع هى أراض بازلتية غير صالحة للزراعة فما الجدوى من وراء تخزين هذه المليارات من المياه وراء هذه السدود اللهم إلا إذا كان الهدف من بناء عدد محدود منها هو توليد الطاقة ليس إلا، وهو أمر لن يؤثر أو يلحق ضرراً ذى شأن بكمية المياه المتدفقة إلى مصر والسودان.

هل لدول المنبع أى «حق قانونى» فى تقليل حصتى مصر والسودان من مياه نهر النيل؟

تجدر الإشارة هنا بأن دول منابع نهر النيل اتجهت إلى اتخاذ موقف شبه جماعى من رفض جميع الاتفاقيات السابقة المتعلقة بتنظيم البعد المائى فى العلاقات بين دول نهر النيل. فعقب استقلال (تنزانيا) عام 1961 أعلن الرئيس نيريرى (ما سمى بعد ذلك بمبدأ نيريرى) ما اسماه الصفحة البيضاء، فالدول التى خرجت من تحت عباءة الاستعمار هى مولود جديد ولذا يتعين ألا يتحمل بأى التزامات إلا عقب مولده، وهو ما يعنى رفضه جميع الاتفاقيات السابقة التى عقدت فى الفترة الاستعمارية، وقد تبعه فى ذلك كل من أوغندا وكينيا، بوروندى عقب الاستقلال. وقد سارت إثيوبيا على ذات النهج فقد أعلنت أمام مؤتمر المياه للأمم المتحدة بالأرجتين عام 1977 أنها غير متقيدة بأى التزامات تعاهدية تجاه الدول المشاطئة الأخرى فى حوض النيل، وأنها تحتفظ بحقها السيادى منفردة فى تنمية مواردها المائية.

ما الحل القانونى لمصر للخروج من هذه المشكلة؟

فى الحقيقة أن كل المواقف السابقة لا سند لها فى القانون الدولى، ذلك أن الاتفاقيات المنظمة لنهر النيل، على تنوعها، تعتبر اتفاقيات إقليمية ترتب حقوقا على الإقليم نفسه فتدمغه بوضع دائم لا يتأثر بالتغييرات التى تطرأ على شخصية الدولة التى تمارس السيادة على الإقليم وحلول دولة محل أخرى فى السيادة على الإقليم، فهذا النوع من الحقوق لا يتأثر بحدوث حالة توارث أو خلافه وهو الأمر الذى نصت عليه اتفاقية فيينا بخلافة الدول فى المعاهدات لعام 1978 والتى تنص على عدم تأثر النظم الإقليمية بخلافة الدول. كما لا تتأثر اتفاقيات الحدود أيضا بخلافة الدول. وقد استندت محكمة العدل الدولية لهذه الاتفاقية فى الحكم الذى أصدرته عام 1997 فى قضية مشروع غابتشيكو فو - ناغيماروس بين المجر وسلوفاكيا.

ثم إن جل الاتفاقيات التى عقدت طوال الفترة الاستعمارية والمنظمة لنهر النيل كانت جزءاً من اتفاقيات الحدود، وعليه فإنه لا يجوز التنصل من جزء من الاتفاقيات،على اعتبار أن نقض هذه الاتفاقيات بكاملها، وهو ما تفعله دول المنابع، إنما يقوض الأساس القانونى لوجودها بخاصة ما يتعلق بحدودها.

كما أن الوضع فيما يتعلق بإثيوبيا يختلف عن الاتفاقيات الاستعمارية التى عقدت نيابة عن أقاليم شرق إفريقيا ووسطها المتعلقة بمياه نهر النيل، ذلك أن معاهدة 15 مايو 1902 قد وقعها الإمبراطور منليك الثانى إمبراطور إثيوبيا (ولم تكن إثيوبيا مستعمرة) مع حكومة بريطانيا (نيابة عن مصر والسودان)، وتنص المادة الثالثة منها على التزام ملك ملوك إثيوبيا بعدم إقامة أى أعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط يكون من شأنها التأثير على انسيابها إلى النيل إلا بعد الاتفاق مع الحكومة البريطانية (الممثلة لمصر) وحكومة السودان.

وعليه فليس ثمة مبرر لرفض إثيوبيا الاعتراف بهذه المعاهدة إذ هى- فضلاً عما تقدم- ليست اتفاقية استعمارية عقدت نيابة عنها من جهة، ثم إن هذه المعاهدة تحدد أجزاء من الحدود بين إثيوبيا والسودان من جهة ثانية، أضف إلى ما تقدم فإن إثيوبيا اعترفت بصحة اتفاقية 15 مايو 1902 بموجب مذكرات تبودلت بينها وبين السودان فى 18 مايو 1972 لتسوية نزاع الحدود بين البلدين، كما أنها لم تطعن فى صحة المعاهدة أمام لجنة الحدود بينها وبين اريتريا عام 2002 عند تحديد نقطة النهاية الغربية للحدود الإثيوبية- الاريترية، وهذه النقطة ثلاثية، إذ تلتقى عندها حدود السودان وإثيوبيا واريتريا.

وإذا كانت دول المنابع ليست فى حاجة إلى المياه بكميات كبيرة وإذا لم يكن بمقدورها التأثير على المياه، ولا يوجد لديها أى حق قانونى فى التخلص من التزاماتها القانونية السابقة، فلماذا الضجة المثارة فى الفترة الراهنة من قبل هذه الدول؟

إن الإجابة عن التساؤل السابق تثير موضوعا آخر أكثر حدة بل هو يشكل أزمة «حالة»، إذا يبدو أن دول المنابع ومن ورائها بعض القوى الأجنبية، تحاول دفع كل من مصر والسودان إلى توجيه مجهودهما الرئيسى تجاه أزمة لم تولد (مياه النيل) فى الوقت الذى يجرى فيه العمل على تفكيك السودان، ثم تهديد الوجود المصرى برمته فى مرحلة لاحقة قريبة.

برأيك كيف ترى دور الولايات المتحدة فى منطقة حوض النيل؟

الأمر مهم جداً وخطير حيث إن الويات المتحدة الأمريكية تتربص بنا، حيث تهدف السياسة الأمريكية فى هذه المنطقة إلى تحقيق أهداف إستراتيجية بالأساس تنصرف إلى السيطرة على المحيط الهندى وبالتحديد مضيق باب المندب بغية حماية طريق ناقلات النفط من الخليج العربى من جهة، والإحاطة بالنفوذ العربى فى المنطقة من جانب آخر خدمة للمصالح الأمريكية والصهيونية ويكشف عن ذلك بعض الوقائع، مثل دعاوى وجود قرصنة أمام السواحل الصومالية، رغم أن المسألة من بدايتها إلى نهايتها عملية امريكية بالأساس شارك فيها الرئيس الأسبق للصومال عبدالله يوسف الذى كان يحصل على نصيبه من الاتاوات الناجمة عن عمليات خطف السفن، اضافة إلى اعتماد الخاطفين لمترجمين أجانب، فضلا عن امتلاكهم أدوات اتصال حديثة تمكنهم من رصد تحركات السفن عبر موانئ كل الدول المجاورة، ولا ننسى ان الولايات المتحدة قد عجزت عن الهيمنة فى البر، سواء فى أفغانستان أو العراق وتحملت ميزانيتها الكثير من الضغوط، فضلا عن الخسائر البشرية فى الارواح، اضافة إلى تدهور سمعة الولايات المتحدة فى العالم، وعليه فقد اختلقت مشكلة ما يسمى «القرصنة» لتتمكن من السيطرة على آخر ممر بحرى (منطق الامبراطوريات القديمة) وهو باب المندب، بعد أن كانت منذ ما يزيد على قرن من الزمان تسيطر على مضيق بنما، وهى مطمئنة إلى مضيق جبل طارق حيث السيطرة البريطانية، ثم إن لديها محطة الانذار المبكر فى سيناء- بعد معاهدة السلام المصرية- الاسرائيلية- بشكل يمكنها من رصد جميع التحركات حول وعبر قناة السويس.

واتساقا مع هذا فقد تمكنت من كسب درجة من الشرعية الدولية بصدور ثلاثة قرارات من مجلس الأمن تعزز وجودها فى المنطقة، وقامت بنقل قاعدتها العسكرية من الباخرة USS إلى جوار القاعدة الفرنسية فى جيبوتى.

وظلت الولايات المتحدة تركز على حليفتها الاستراتيجية فى المنطقة، وهى إثيوبيا، بشكل مكنها من أن تصبح قوة اقليمية كبرى فى المنطقة تحت رعاية امريكية، فقد ساندت إثيوبيا فى رفضها للانسحاب من منطقة بادمى فى إريتريا رغم صدور حكم محكمة التحكيم بذلك منذ عام 2002، وهو حكم نهائى ملزم، وشكلت غطاء عسكريا للتدخل الاثيوبى المستمر فى الصومال، وفى ظل وضع كهذا تمكنت إثيوبيا من استجلاب القوات الكينية، والأوغندية، والبوروندية إلى الصومال تحت مظلة الاتحاد الإفريقى! بحيث باتت إثيوبيا تشكل القوة الاقليمية فى المنطقة، وقائدة لدول حوض نهر النيل فى موقفها من مصر، فاذا ما أضفنا إلى ذلك ان قوات الإفريكوم أصبحت تدرب القوات العسكرية لمعظم دول حوض نهر النيل لأدركنا طبيعة العقيدة العسكرية التى باتت تتبناها جيوش هذه الدول (محاربة الإرهاب!).

ماذا عن دور إسرائيل فى المنطقة، خاصة أن هناك من يقول أن اسرائيل تطمح لأن تحصل على حصة من مياه النيل؟

لست فى حاجة إلى التفصيل فى أهداف ودور السياسة الاسرائيلية فى منطقة حوض نهر النيل، إذ من المعروف أن أحد أهدافها الاساسية يتمثل فى تطويق العالم العربى جنوبا، وشد أطرافه لتحويل انتباهه عن القضية الفلسطينية، ولما كانت لكل من مصر والسودان مصلحة مصيرية تتعلق بمياه النيل، فان اسرائيل اتجهت إلى تعزيز نفوذها الاستراتيجى فى هذه المنطقة من خلال عدة أساليب، وذلك مثل الربط الايديولوجى التاريخى مع كل من إثيوبيا، وجنوب السودان، فالامهرا الجماعة الحاكمة السابقة فى إثيوبيا كانت تصنف نفسها بأنها شعب الله المختار، وتزعم انتماءها إلى الأسرة السليمانية على نحو شكل قاعدة أيديولوجية للتحالف مع إسرائيل، والدينكا الجماعة الغالبة والحاكمة فى جنوب السودان، تزعم أنها من أرومة يعقوب عليه السلام بكل ما يحمله ذلك من دلالات واشارات.

ولا ننسى أن الوجود الاسرائيلى العسكرى متمركز تاريخيا فى شمال أوغندا بعلم أو بدون علم الحكومة الأوغندية، ذلك أن منطقة الشمال منطقة هشة، فقيرة، ولا توجد فيها حتى سلطة قبلية تنظم شئونها، ولذلك ظلت ساحة للنفوذ الصهيونى منذ استقلال أوغندا.

ولو تحدثنا عن كينيا ففيها أكبر نفوذ صهيونى فى شرق إفريقيا، فسفارة اسرائيل فى نيروبى من أكبر السفارات الصهيونية التى تدير السياسة الاسرائيلية فى كل منطقة شرق إفريقيا، وبها أكبر وكر للموساد فى إفريقيا (نتذكر هنا واقعة اختطاف عبد الله أوجلان).

الصين قوة صاعدة فى العالم، وتحدث البعض عن دور لها فى إفريقيا عامة ودول حوض النيل بشكل خاص، كيف ترى ذلك؟

كما يبدو لنا أن الصين لا يعنيها فى المرحلة الراهنة سوى مصالحها الاقتصادية فحسب، فهى لم تقف فى مجلس الأمن، ولو مرة واحدة، لمساعدة السودان فى مواجهة العقوبات الدولية، ثم إنها باتت تشكل المقاول الرئيسى لبناء السدود فى إثيوبيا، تحت رعاية أمريكية، ضاربة عرض الحائط بكل الاتفاقيات الدولية المتعلقة بنهر النيل.

هل يمكن أن نقول أن هناك تنافسا صينىا أمريكىا فى إفريقيا؟

الحديث عن تنافس صينى- أمريكى يمكن التعويل عليه بأنه يعد ضربا من الخيال والأوهام وذلك لسببين على الأقل أولهما أن الصين أثناء الحرب البادرة، كانت حليفا رئيسيا للولايات المتحدة فى مواجهة الاتحاد السوفيتى فى إفريقيا، الذى كانت تصنفه بالعدو الرئيسى. وعليه فقد تدخلت فى افريقيا لشق حركات التحرير الإفريقية التى كان يساندها الاتحاد السوفيتى مثل حركات التحرير فى انجولا و نامبييا وزمبابوى موزمبيق وجنوب إفريقيا.

ويجب أن نذكر بالاضافة إلى ذلك أن الصين أكبر مشتر لسندات الخزانة الأمريكية التى تزيد عن 3 تريليونات دولار. فأين هو التنافس إذن!

هل لإيران دور أيضاً فى منطقة حوض النيل؟

لا ننسى أن إيران قامت منذ فترة ليست بالبعيدة، بزيارات رسمية على أعلى المستويات لكل من كينيا وتنزانيا وأوغندا وعقد العديد من الاتفاقيات مع الدول الثلاث، وليس معروفاً- على حد علمى- طبيعة علاقاتها مع هذه الدول اللهم إلا إذا كان الهدف تعزيز روابطها مع الشيعة الزيدية فى شرق إفريقيا بغية حمايتهم من التأثير السنى(الوهابى) القادم من الجزيرة العربية، أو ربما المساهمة هى الأخرى فى ممارسة ضغوط على الدول العربية فى الشمال الإفريقى.

لكن لو رجعنا للوراء ونظرنا إلى الدور المصرى فى منطقة حوض النيل ماذا تقول؟

رغم تحول مصر عن التوجه الاشتراكى سياسياً واقتصاديا، واعتمادها على الولايات المتحدة الأمركية منذ اواخر السبعينيات (99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا) إلا أن الولايات المتحدة ظلت حريصة على إجهاض أى محاولة مصرية للعب أى دور اقليمى عربى أو إفريقى يشكل قاعدة لمواجهتها، أو حتى قوة توازن قوة إثيوبيا.

ويجدر بالاشارة فى هذا السياق إلى عدد من الحقائق، أولها أن منطقة حوض النيل لم يكن بها اى حركات تحرير بالكفاح المسلح، اللهم إلا الحالة الاريترية، وكان لمصر الدور الرائد مع نضال الشعب الإريترى فقد تشكلت أول جهة اريترية فى مصر- جبهة تحرير اريتريا عام 1959- غير أن الموقف المصرى تجاه اريتريا تبدل اواخر السبعينيات فأصبحت مصر ترفض استقلال اريتريا وتنادى بالحكم الذاتى لها فى إطار إثيوبيا الموحدة !

وحتى استقلال اريتريا- ورغم المرارات من الموقف المصرى- فإن الرئيس الإريترى أسياسى أفورقى زار مصر أكثر من 20 مرة على مدى العشرين عاماً الماضية إلا أن الرئيس السابق لم يبادله الزيارة، كما لم يهتم بإقامة علاقات ذات بال مع اريتريا على عكس الحال مع إثيوبيا.

وقد انهارت القدرة الاقتصادية لمصر فى إفريقيا، عقب الخصخصة حيث بيعت شركات القطاع العام، فـتآكلت معها شركة النصر للتصدير والاستيراد، وضاع الخطان الملاحيان لمصر تجاه شرق وغرب افريقيا.

وأيضاً تآكل دور مصر الإفريقى إلى حد بعيد فى المنطقة منذ انهيار الصومال فى بداية الستينيات من القرن الماضى، حيث كان يشكل القاعدة السنية الكبرى فى شرق إفريقيا.

وقد أدى انهيار الدولة الصومالية إلى إحداث خلل فى التوازن مع إثيوبيا، وهو التوازن الذى كان يجد من قدرات إثيوبيا فى الإضرار بالمصالح المصرية والعربية.

إذن يتضح لنا أن الدور المصرى قد تراجع فى المنطقة، فما الآثار والنتائج التى ترتبت على هذا التراجع؟

لابد أن نذكر أن نتائج هذا الوضع قد سببت العديد من الآثار السلبية العامة على مصر فى القارة الإفريقية، وذلك مثال أن اللغة العربية أصبحت فى عداد اللغات الأجنبية فى القانون التأسيسى للاتحاد الإفريقى، ذلك أن اللغات الرسمية للاتحاد أصبحت اللغات الإفريقية ما أمكن فاللغة العربية والانجليزية والفرنسية، وذلك بعد أن كانت لغة افريقية رسمية لمنظمة الوحدة الإفريقية مع الانجليزية والفرنسية.

كما أن المتتبع للكتابات الإفريقية الموسوعية يرى دون عناء أن الشمال الإفريقى مستبعد من هذه الكتابات، اللهم إلا فيما يتعلق بقضايا جنوب السودان، والأقباط، والنوبيين والأمازيغ. ويكأن باقى السكان فى الشمال لا يعتبرون أفارقة.

وذلك هو نفس الحال فى التقسيم الثقافى للقارة الإفريقية فهو انجلوفونى أو فرنكفونى، أو لوزيفونى.. اما عربى أو عربفونى فلا وجود له!!

ونتيجة للغياب المصرى على الساحة الإفريقية، ظهرت السياسة المصرية وكأنها فوجئت ذات ليل بكون مصر هى الدولة الوحيدة التى لا تنتظم فى تجمع اقليمى فى القارة، ولم تتمكن من ذلك إلا عام 1999 عندما وافقت السودان على انضمامها إلى الكوميسا بعد تحسن العلاقات بين الدولتين، رغم أن مصر جغرافياً لا تقع فى شرق افريقيا لا فى جنوبها.

برأيك ما الأسلوب الأمثل لحل مشكلة مياه النيل؟

أؤكد أن هناك بعض الاجراءات التى يتعين القيام بها لوضع الأمور فى نصابها خدمة للمصالح المصرية فى منطقة حوض النيل نذكر منها مثل:

كان يتعين أن توضع مادة فى الدستور تنص على أن الشعب المصرى شعب إفريقى بحكم الجغرافيا والتاريخ والأصل السلالى، وشعب عربى بحكم اللغة والثقافة، وشعب مسلم ومسيحى بحكم العقيدة.

وأيضاً العمل قدر المستطاع على تحقيق التوازن فى المنطقة، من خلال تسوية المشكلة الصومالية، حيث كانت الصومال تشكل عامل توازن فى المنطقة فى مواجهة إثيوبيا على نحو كان يخدم المصالح المصرية، ويمكن أن يتم ذلك بتعاون مصرى- سودانى- اريترى- سعودى- أردنى- يمنى.

أيضاً تعزيز العلاقات مع اريتريا بسواحلها البالغ طولها على البحر الأحمر نحو 1200كم، وذلك دون تجاهل للعلاقات مع إثيوبيا.

والعمل على تحقيق تنسيق بحرى بين الدول المطلة على البحر الأحمر، مصر والسودان، واريتريا، والأردن، والسعودية واليمن خدمة لمصالح هذه الدول فى مواجهة التهديدات الخارجية.

وأيضاً العمل قدر المستطاع على تعميق العلاقات مع بعض دول حوض النيل التى لا يسيطر عليها عداوات تاريخية مع مصر وهى: جنوب السودان، والكونغو الديمقراطية، وتنزانيا ورواندا وبوروندى لتفكيك هذه العلاقات مع إثيوبيا.

وتعزيز العلاقات مع دول غرب إفريقيا (الاسلامية) لحصار مصدر القلق فى منطقة حوض النيل (إثيوبيا وحلفاءها) مع الحذر من التعامل أو التعاون مع الجماعات (الجهادية).

و ممارسة أكبر قدر من الضغوط على الصين حتى تمتثل للقانون الدولى، وتتوقف عن إقامة سدود على النيل الأزرق بإثيوبيا.

أخيراً محاولة إغراء الولايات المتحدة، أو ممارسة قدر من الضغوط عليها، كيما تتوقف عن الدعم المطلق لإثيوبيا والذى من شأنه الاضرار بالمصالح المصرية.