
د. حماد الرمحي
حين يسكن الموساد في بيتك.. واتساب أداة إسرائيل لمراقبة المصريين
حين يسكن العدو في جيبك، ويجلس الجاسوس في هاتفك، لا حاجة لاقتحام الأبواب ولا نصب كمائن في الظلام، فالتجسس لم يعد يرتدي معطفًا أسود، بل يتخفّى خلف أيقونة خضراء تسمى "واتساب".
واتساب... ذلك التطبيق الذي تسلل إلى ملايين البيوت كرفيق ودود، واستقر في الجيوب كأقرب الأقربين، تبيّن مع مرور الوقت أنه لم يكن سوى قناع زائف لصوت آخر يتنصّت في الخفاء.
وتحول من أداة للتواصل اليومي إلى وسيلة للاختراق الخبيث، وتبدل الصديق الرقمي إلى عين ساهرة تنقل الهمسات والأنفاس إلى غرف الاستخبارات الإسرائيلية، دون أن يفتح نافذة أو يطرق بابًا، وأصبح الأداة الرئيسية للموساد الإسرائيلي للتجسس على الدول والأنظمة والمعارضين لدولة الكيان الصهيوني وفي مقدمتهم الصحفيين والمعارضين.
إن ما يُروّج له كتشفير آمن، ليس إلا ستارًا تتسلل من خلفه أجهزة الاستخبارات، وما يُظنّ أنه خصوصية، صار عرضة للاختراق والتسجيل والتتبع.
وما لا يعلمه ملايين المستخدمين أن خلف الواجهة الخضراء البريئة لتطبيق المراسلة الأشهر، تدور حرب رقمية شرسة، تقودها إسرائيل باستخدام برنامج التجسس الأخطر في العالم: "بيغاسوس" الذي حوّل الهواتف إلى كاميرات مراقبة، والرسائل إلى ملفات أمنية، والأفراد إلى أهداف.
بيغاسوس... الجاسوس الذي لا يُرى: سلاح إسرائيل الخفي لاختراق الهواتف في صمت.
في ربيع عام 2019، كانت آلة الحرب الإسرائيلية تخوض معركة جديدة، لا تُدار على الحدود ولا تُطلق فيها رصاصة واحدة، بل تُخاض خلف الشاشات، عبر التشفيرات الرقمية.
في هذا التوقيت، تمكنت وحدة الاستخبارات (8200) الذراع السيبرانية الأخطر في الجيش الإسرائيلي، من تطوير أخطر فيروسات التجسس في العصر الرقمي، وأطلقت عليه اسم "بيغاسوس".
لم يكن الفيروس عابرًا كغيره من البرمجيات الخبيثة، بل سلاحًا فتاكًا يعيد تعريف مفهوم المراقبة، ويحوّل الهواتف الذكية من أدوات تواصل إلى أبواب مشرعة أمام العيون الاستخباراتية.
بيغاسوس لم يحتَج إلى رسالة خبيثة أو رابط ملوّث أو نقرة مريبة، كل ما يتطلّبه الأمر مكالمة صوتية واحدة لا يجيب عليها المستخدم، ليزرع نفسه في الجهاز بهدوء كامل، ويبدأ بالعمل.
إنها تقنية "Zero Click" المدهشة، التي تسمح بالاختراق الكامل دون أي تفاعل من الضحية، ودون أن يظهر في واجهة الهاتف أثرٌ أو تنبيه. في ذلك المشهد، بدا تطبيق واتساب وكأنه الهدف المثالي، قاعدة مستخدمين تتجاوز 2 مليار مستخدم، وصورة ذهنية مطمئنة تروّج لتشفير قوي من الطرف إلى الطرف، لكن الحقيقة انفجرت حين أعلنت الشركة المالكة "ميتا" عن اختراق واسع النطاق عبر ميزة المكالمات الصوتية، كشف الستار عن هشاشة الأمان الرقمي، وأثبت أن التشفير ليس أكثر من وهم تسويقي يمكن اختراقه بضغطة زر من مقرٍ استخباراتي بعيد.
وبمجرد تسلل فيروس بيغاسوس إلى جهازك، يتحول إلى جاسوس إلكتروني صامت، قادر على التنصت على المكالمات، وتفعيل الكاميرا والميكروفون دون إذن، وسحب الرسائل والملفات والصور وتحديد الموقع الجغرافي، ثم إرسال كل هذه البيانات الحساسة إلى خوادم خفية تدار من داخل إسرائيل.
الهاتف نفسه ينقلب على صاحبه، ويصبح عدوًا يسكن الجيب، يبتسم ببراءة بينما يسلّم أسرارك كاملة للوحدات الاستخباراتية الصهيونية.
التقارير الدولية كانت صادمة، فمنظمة العفو الدولية ومركز Citizen Lab الكندي وثّقا بالأدلة إصابة أكثر من 1400 عملية اختراق في أكثر من 45 دولة حول العالم، تشمل سياسيين معارضين، محامين، صحفيين، ونشطاء حقوقيين، ومن بين الأسماء، لمع اسم الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الذي تبيّن لاحقًا أن هاتفه كان هدفًا لعملية اختراق ببرنامج بيغاسوس، قبل أسابيع من وفاته في إسطنبول.
بيغاسوس لم يكن مجرد برنامج، بل بداية حقبة جديدة من الحروب الصامتة، التي تُخاض دون بنادق ولا جنود، لكنها تُدمّر ما هو أعمق من الحجر، تدمر الخصوصية والكرامة الإنسانية.
ما جرى في 2019 لم يكن سوى رأس جبل الجليد، فالهجمات لم تتوقف، بل تكاثفت وتحوّلت إلى سياسة رقمية معلنة تستهدف الفلسطينيين بين عامي 2020 و2023.
وفي سبتمبر 2022، ظهر تهديد جديد عندما أعلن واتساب عن اكتشاف ثغرة أمنية خطيرة عُرفت باسم CVE-2022-36934، ووصفت بأنها من أخطر الثغرات في تاريخ التطبيق، إذ بلغت درجة خطورتها 9.8 من 10 وفقًا لمؤشر CVSS العالمي.
هذه الثغرة الأمنية سمحت للمهاجمين بإرسال ملفات خبيثة عبر الرسائل، ومن ثم السيطرة الكاملة على الجهاز في بعض الحالات، دون علم المستخدم، وقد اشارت كافة التقارير إلى أن وحدة المخابرات الإسرائيلية (8200) هي التي تقف ورائها.
لماذا يستهدف الجواسيس تطبيق واتساب؟
أمام هذا الواقع، يثور التساؤل: لماذا يستهدف الجواسيس واتساب تحديدًا؟ الجواب لا يكمن فقط في عدد مستخدميه الهائل الذي تجاوز المليارين، بل أيضًا في الثقة العمياء التي منحها الناس لهذا التطبيق، باعتباره منصة مشفرة يصعب اختراقها.
هذه الثقة، التي لم تكن في محلها، فتحت الأبواب أمام موجات متلاحقة من الاختراقات، مستغلةً في كثير من الأحيان ضعف وعي المستخدمين، وتأخرهم في تحديث التطبيق، وسهولة الوقوع في فخ الرسائل المزيفة.
في ظل هذه الحقائق المرعبة، تبدو الخصوصية في العصر الرقمي وكأنها وهم جميل، فكلما زاد تطور التكنولوجيا، زادت قدرتها على التسلل إلى حياتنا دون استئذان، ومع صعود أدوات التجسس الإلكتروني العابرة للحدود، لم يعد من الغريب أن تتحول محادثة شخصية إلى مادة تحليل لدى وحدات الاستخبارات.
وهنا لان يكون الحل في تقنيات التشفير، بل في يقظة المستخدم، ووعي الحكومات، وتشريعات دولية تجرّم استخدام أدوات مثل بيغاسوس ضد الأفراد المدنيين.
إن تطبيق واتساب لم يعد مجرد تطبيق دردشة، بل أصبح منصة مراقبة قد تفضح الأسرار وتكشف الخصوصيات وتسهم في صناعة قرارات مصيرية ضد الأفراد والدول.
وهنا أقول: إذا كان التواصل جريمة، والتشفير وهمًا، يصبح من واجب الصحافة والرأي العام أن يدق ناقوس الخطر!.
د. حماد الرمحي