قيم تفرضها الأسفار
نسمع في هذه الأيام عندما نشطت حركة السياحة أن جماعة من الناس يرتبطون بعلاقات صداقة ومعرفة عزموا السفر إلى بلاد بعينها بغية قضاء وقت ممتع مع زملاء اعتادوا على بعضهم بعضًا، وتحملوا مجتمعين وعثاء السفر، هذا الشعور الإنساني كان مألوفًا في مجتمعنا عندما كان الأجداد والآباء تضطرهم ظروف العيش والبحث عن مشترين للؤلؤ الطبيعي أن يجدوا في أسواق القارة الهندية ما يلبي طلبهم، ويستطيعوا مجتمعين أن يتحملوا تكاليف السفر بالبواخر التجارية القديمة وكانوا يطلقون عليها «سنان» و«معلي» وهذا مرتبط بالذهاب والعودة؛ وكانت هذه المراكب وعلى سطحها مكانًا للتسوق وبيع أنواع البضائع؛ فقد كانت هذه البواخر تتوقف في موانئ خليجنا العربي وبمواقع مختلفة، فكانت أسطح البواخر في وقت من الأوقات تتحول إلى سوق تعرض فيه أنواع البضائع؛ لكي يقوم البعض منهم بشراء حاجاته عندما تتوافر لديه المبالغ، وكانت وقتها الروبية الهندية هي الرائجة ولم يكونوا يعرفون الدولار وغيره.
كان رفيق الرحلة أهم من الرحلة نفسها، فالطريق إلى السفر البعيد محفوف بالمخاطر وتبعاته كانت تفترض من الأصدقاء أن يتعاونوا مع بعضهم بعضًا، كما بإمكانهم أن يتسامروا ويتحدثوا عن تجاربهم في الحياة لقضاء الأوقات المفيدة.
أتذكر أن الجد لأبي يرحمه الله محمد بن صالح الذوادي كان عندما يتنقل أحيانًا ليلًا من الجسرة إلى البديع ومن ثم إلى مدينة الحد مرورًا بمدينة المنامة ومدينة المحرق يأخذ معه عصا من نوع الخيزران، شعورًا منه أن العصا رمز الحماية، وكان يحرص يرحمه الله على أن يصطحب معه صديقًا في تنقلاته، وكان يؤمن إيمانًا راسخًا بأن رفيق الدرب هو أهم من أي مكسب يناله في أسفاره وتنقلاته.
لقد أدركنا نحن قيمة الرفيق أو الصديق عندما شديّنا الرحال للدراسة الجامعية في الخارج حينها أدركنا أن زميل السكن الداخلي بمنزلة الأخ الذي يجب أن تكون العلاقة معه قوية ووثيقة؛ ففي غياب أحدنا يكون الصديق هو الأمين على ممتلكاتنا المتواضعة والحريص على الأغراض الشخصية، ومن بينها في ذلك الوقت الكتب والمحاضرات.
وأتذكر أنه في جامعة الكويت أعدت لنا الجامعة في عطلة نصف السنة رحلة مدفوعة الأجر على حسابنا لتونس والجزائر في العام 1968م، وكان المشرف على الرحلة الله يرحمه أستاذًا ومربيًا فاضلًا من جمهورية مصر العربية وأوصانا باختيار، كل واحد منا، زميلًا له يرتاح إليه لكي يتم التعاون بيننا وبإمكاننا أن نتشارك في الغرف إن احتجنا ذلك، وفي الواقع أن أهل تونس وأهل الجزائر كانوا كرماء معنا ووفروا لنا السكن الانفرادي شعورًا بمسؤوليتهم أن يقضي ضيوفهم أوقاتًا طيبة بلا منغصات، ولكن ظلت الحاجة إلى رفيق الدرب ضرورية، فاخترت وقتها الزميل محمد بن سعد بن ظافر الدوسري من البحرين رفيقًا لي في هذه الرحلة رغم اختلاف تخصصي الأكاديمي عنه، لكن هناك قواسم مشتركة بالإمكان التحدث حولها في سفرنا الطويل هذا، وكان الأخ محمد نِعم الصديق ورفيق الدرب.
في نطاق الوظيفة كان رفقاء الدرب الذين سافرنا معهم كُثر على تنوع وظائفهم وإختصاصهم، وكان السفر بالنسبة لنا متعة وفيه فائدة، فالمرء يتعرف إلى صديقه أو زميله من خلال هذا السفر، وسبحان الله دائمًا يذكروننا حكماء قومنا بذلك السؤال الذي طرحه أحد المتحدثين عندما سأله: «هل فلان صديقك؟»، فكان جوابه «نعم هو صديقي»، وإذا به يواجه المجيب «وهل سافرت معه؟!»، فإذا كان الجواب بنعم فالأمر إذن مجرب، أما إذا كان الجواب بالنفي فيأتيه الجواب «إذن أنت لا تعرفه، ولا تعرف حقيقة صداقته»، فكانوا يشترطون أنه إذا أردت أن تعرف صدق علاقتك مع صديقك أو زميلك أن تكون قد سافرت معه؛ فالسفر يسفر عن حقيقة الإنسان ومدى الإعتماد عليه في الحل والترحال.
نتعرض في حياتنا العملية للكثير من الظروف التي تستدعي السفر منفردين، وفي هذا مشقة ما بعدها مشقة، وقد نسافر جماعات وهذا أيضًا يكون الفرز في العلاقات ونتبين من هو على قدر المسؤولية ومن هم عكس ذلك..
إن السفر خصوصًا الطويل يحتاج فيه المرء لرفقاء الدرب، والحياة بطبيعتها فيها مفاجآت، ومنغصات وعقبات، والمرء منا بحاجة دائمًا لمن يأخذ بيده إلى الطريق الآمن. أحيانًا في سفراتي أرى بعض المسافرين يتلهون بأجهزة الهاتف وبإستخدام التقنيات الحديثة وجل وقتهم يقضونه في قراءة وردود الرسائل المرسلة إليهم من معارفهم وأصدقائهم والمشاركين معهم في الجماعات «الجروبات»، ونصيحتي لهم أن ينتهزوا فرصة وجود الأصدقاء والمعارف معهم في السفر في الحديث العام لتعم الفائدة ويكتسب المرء منا خبرة الآخرين وتجاربهم الناجحة وهي فرص قد لا تتكرر، فنحن بحاجة إلى بعضنا بعضًا والاستفادة من الظروف التي مر كل منا بها، فقد لا تتاح لنا الفرصة للاطلاع والعلم والاستفادة، ولكن السفر مهما طال الطريق أو قصر ففيه الفائدة، خصوصًا أن الرفيق أهم من الطريق.
وعلى الخير والمحبة نلتقي..