إنه جيل العطاء
في زمن الاعتماد على الذات، وتعويد الأبناء على معترك الحياة، والخوض في تجارب الحياة المعيشية، وطلب الرزق الحلال، كانت العطلة الصيفية بعد عام دراسي حافل بالدروس والامتحانات والدوام من الصباح إلى الظهيرة وانتظار نتائج الامتحانات والانتقال من مرحلة دراسية إلى أخرى.. كانت تنتظرنا تجربة أخرى وهي البحث عن عمل في العطلة الصيفية يناسب أعمارنا وقدراتنا على التحمل، بطبيعة الحال كانت الوظائف المتاحة قليلة وشحيحة، ويأتي على رأسها العمل في البناء والمتمثل في الأجر اليومي للعامل، فإذا كان الأستاذ وهو رئيس فريق البناءين حنونًا فقد نلقى الرعاية والعناية وتقدير أعمارنا أما إذا كان شديدًا وحازمًا فلا مراعاة إلا للعمل والإنجاز والبذل والتفاني.
وكل على طريقته في تعليمنا الانخراط في الأعمال، ولم نشك يومًا بأنهم كانوا يقدرون طاقاتنا وإمكانياتنا لكنهم كانوا الحريصين على تدريبنا وتحملنا لظروف الحياة العملية... وأخصُ منهم العم محمد الميبر الدوسري والعم حمد الميبر الدوسري يرحمهما الله.
لم يكن لمن تجاوز الرابع الابتدائي العذر في العمل بالعطلة الصيفية، وكلما تقدم الطالب إلى مراحل متقدمة من الدراسة كلما تطلب منه أن يعمل دون هوادة أو إبطاء وعليه أن يقبل ما يعرض عليه من أعمال وبالأجور التي يحددها صاحب العمل...
كنا جيلاً في قرية البديع عملنا في البناء، وكان أساتذة البناء في قريتنا الحريصين على تعويدنا ومساعدتنا في بلوغ الأهداف رحمهم الله جميعًا، فقد كانوا أرباب عمل ولكنهم كانوا آباء حريصين أشد الحرص على إنجاز الأعمال التي تسند إلينا بحرفية وإتقان، فلا يرتاح لهم ضمير إلا عندما يلمسون منا اتقانًا في العمل اليدوي ونفهم بالإشارة وبقليل من التوجيه دورنا المأمول منا.
عندما وصلنا إلى المرحلة الإعدادية عملت أمين صندوق «كاشير» في أحد فنادق البحرين بالمنامة العاصمة وكانت تجربة ثرية، فقد كانت إدارة الفندق متفهمة لدورنا وحاجتنا إلى العمل وتجاوزوا عن أخطاء في المحاسبة لكنهم كانوا الموجهين لعدم الأخطاء، وإذا لم يفد ذلك فالخصم من الراتب الشهري.
وعندما وصلنا إلى المرحلة الثانوية ذهبت مع صديق عمري المرحوم أحمد بن سعيد بن عبداللطيف الودعاني الدوسري يرحمه الله للعمل في المملكة العربية السعودية الشقيقة عن طريق الخط البحري ما بين فرضة المنامة وفرضة الخبر وعملنا كمسجلي بضائع وكان عملاً ممتعًا رغم المشاق والصعاب والسهر أحيانًا لإنجاز مهمة تسجيل البضائع التي تحملها سفن الشحن الكبيرة من أمريكا وأوروبا وآسيا وأفريقيا وبعض البلدان العربية وهي تجربة النقل البحري وما به من طبيعة خاصة وسفن ذات مستويات متباينة، وكانت فرصة للتعرف على زملاء العمل من المملكة العربية السعودية والبحرين وسلطنة عمان واليمن، وكان الراتب الشهري لا يتجاوز الثلاثة مائة ريال سعودي غير أن التجربة العملية لا تقدر بثمن بالإضافة إلى تعويد النفس على الأكل من عرق الجبين، وكنا سعداء بأننا استطعنا أن نوفر بعض المبلغ وتسليمه إلى أولياء أمورنا، الذين فرحوا بعملنا وجهدنا وما كان يهمهم ما حصلنا عليه من مبالغ بسيطة، فالمهم عندهم الخبرة والتجربة.
وأنا أتأملُ هذه التجارب الحياتية التي مررنا بها، وتحملنا الصعاب والمشاق من أجل تعويدنا على العمل في سن مبكرة وتحمل المسؤولية من أجل إرضاء أولياء أمورنا بأننا في المستقبل إن شاء الله سنعتمد على أنفسنا ونكون لهم عونًا على مواجهة الحياة وما بها من صعاب.
أشفق كثيرًا على أجيالنا الحاضرة التي وجدت أمامها فرصًا مختلفة ومفاهيم متباينة وتحديات لا حصر لها، فقد تغيرت أساليب وأسس التربية بتغير الظروف والمستجدات وبات من الضروري لأولياء الأمور توفير كل مستلزمات الحياة بدءًا من التعليم العام أو الخاص إلى توفير مقتنيات العصر بما فرضه الحاسوب الآلي من إمكانيات كثيرة وظروف يجب مراعاتها ولستُ متشائمًا وإن كان القلق أحيانًا يخامرنا جميعًا ولكننا والحمد لله وجدنا في أبنائنا وأحفادنا قدرات ومواهب تسعدنا ونفرح بها، ونتفاءل خيرًا بما يحققونه عبر التواصل الاجتماعي في جانبه الإيجابي وليس السلبي، وعلى الجهات المعنية بالتعليم والتدريب والتوجيه مراعاة المصلحة العامة ومصلحة الوطن فوق كل اعتبار، فلم تعد المسؤولية مسؤولية البيت فحسب بل باتت الدولة والمجتمع مسؤولين عن توجيه الأبناء والأحفاد إلى كل ما ينفعهم وينفع مجتمعهم ووطنهم الذي يعيشون فيه بأمن وأمان وقد وجدنا ولله الحمد قدرات وإمكانيات نفخر بها يقوم بها شبابنا في مختلف المجالات وهذا يستلزم منا التكاتف والتعاون والتآزر لما يخدم وطننا وشعبنا والله المستعان ويوفقنا جميعًا إلى بلوغ الأهداف السامية التي ننشدها ونحرص عليها.
وعلى الخير والمحبة نلتقي..