ضرورة وحتمية اللقاء
الإنسان بطبعه يأنس للجلوس مع من يكن لهم التقدير وربما الحب، وهو عندما يلتقي بهم في الوطن يشعر بأنه جزء من ما يجري، بل ربما تقع على عاتقه مسؤولية إبداء رأيه فيما يتناوله الجلساء من أمور حياتية تهم الفرد أو المجتمع، والمرء منا عندما تضمه الغربة في بلد عربي أو بلد أجنبي فإن الاهتمام عندهم في الحديث قد يتناول أوضاعهم التي هم عليها في الغربة وقد يتم تبادل الخبرة والتجربة في الأوطان التي هم ينتمون إليها.
حدثنا الأجداد والآباء عن ظروفهم في السفر إلى أوطان قريبة منهم وبعيدة وكنا نأنس للاستماع إليهم، اتخذوا من المقاهي في الأحياء وربما المدن مكانًا للالتقاء والحديث عن الظروف التي مرّوا بها كما أن المجالس التي كانوا يغشونها كانت بمثابة المنتديات التي يتجمع الناس ليسمعوا من الآخرين تجاربهم في هذه الأسفار، وكانوا يقولون: «إن للحديث رجاله الذين يدركون الإحاطة بالأمور»، ولذلك فقد اختص البعض منهم بقدرته على الرواية والتشويق في الأحاديث، وكان يأسر الجالسين بالأحاديث الشائقة، وكان المستمعون له كلهم آذان صاغية، فقد حباه الله المقدرة على الوصف، وحفظ المواقف في الظروف المختلفة التي تعرض لها أو نقل إليه من الآخرين وامتاز بالأمانة في الروي؛ رحم الله الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي، فقد كانت أمسياته الشعرية لا تخلو من الروي في المواقف المتعددة، وكان هو ابن الريف المصري، حيث يستمع الناس في المقاهي والمجالس إلى أحاديث متنوعة وكان يرحمه الله يأنس لهذه الأحاديث ويصوغ بعض المواقف شعرًا صادقًا وأمينًا إضافة إلى تملكه موهبة الشعر والإلقاء وعندنا في مملكة البحرين الشاعر الشعبي المتمكن عبدالرحمن محمد رفيع يرحمه الله الذي صاغ بعض المواقف شعرًا شعبيًا وامتلك ناصية الروي باللهجة البحرينية، بالإضافة إلى تمكّنه من الفصحى عندما يكون الموقف يتطلب ذلك، وكان هو والشاعر السعودي المرحوم الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي ممّن برعوا في المساجلة الشعرية، وإن كان الشاعر غازي عرف بشعره بالفصحى، وكانت في كل ملتقياتهما خارج الوطن وداخله نسمع ونقرأ مساجلاتهما الرائعة، فهما يرحمهما الله شاعران لا تملّ من أمسياتهما الشعرية أو جلساتهما في المجالس التي يغشونها في المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين.
أتذكر أنه في زمن جميل استضاف نادي الخريجين بالبحرين أمسية شعرية أحياها الشاعر صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل والشاعر غازي عبدالرحمن القصيبي والشاعر عبدالرحمن محمد رفيع والشاعر مبارك عمرو العماري، وكان لي شرف إدارة هذه الأمسية الشعرية التي اعتبرت من بين أهم الأمسيات الشعرية التي شهدها نادي الخريجين على مدى تاريخه الطويل، فقد امتلأت صالة نادي الخريجين عن آخرها ووقف بعض الحاضرين ممن لم يتح لهم المجال للجلوس من أول الأمسية حتى آخرها، وقام تلفزيون البحرين بتسجيلها وكان الطلب عليها يفوق أي طلب على أمسية شعرية وأحسب أن الكثير من عشاق الشعر يحتفظون بها إلى اليوم وهي بالضرورة متاحة أيضًا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.
إننا من الجيل الذي عاش مثل هذه الأمسيات الشعرية والندوات الفكرية وكان للجهات الرسمية والأهلية الدور الكبير في احتضان هذه الأفكار والرؤى وكان هذا بمنزلة التثقيف المباشر، صحيح أن الوسائل الحديثة استطاعت أن تغطي جانبًا من كل ذلك إلا أن التواصل المباشر والاستعداد النفسي والفكري لمثل هذه الملتقيات لا يعّوض وأتت علينا كورونا لتضيف الحواجز وتمنعنا من اللقاء المباشر، ولكننا نأمل أن تعود المياه إلى مجاريها ويكون لنا شرف الالتقاء بمفكّرينا ومبدعينا بما يعود علينا وعلى الأجيال التي تأتي بعدنا بالخير.
فاللقاء المباشر وتبادل الأفكار والاستماع إلى مفكرينا ومبدعينا يخلق هذا التواصل الحميمي الذي يسعدنا ويزيل عنا الكدر ومنغصات الحياة التي باتت تؤرّقنا وتؤرق أجيالنا.
ومن الأمسيات التي اذكرها ونظمها نادي الخريجين أمسية شعرية للشاعر العربي نزار قباني، وأدركنا من خلال الاتصالات أن عدد الحضور المتوقع يتطلب منا النظر في قاعة أكبر تتسع لجمهور الحضور، وبالفعل تم اختيار أكبر قاعة في أحد فنادق مملكة البحرين وكانت أمسية ناجحة وشهد الحضور من البحرين ومجلس التعاون لدول الخليج العربية.
إننا كبشر نحتاج فعلاً إلى الالتقاء وتبادل الأفكار النيرة التي تعود علينا جميعًا بالخير وتسهم في الوعي والتثقيف، وفي نفس الوقت إتاحة الفرصة للمبدعين والمفكرين أن يلتقوا بمن يتابعونهم من خلال كتبهم أو أفكارهم عبر وسائل الإعلام المختلفة.
وعلى الخير والمحبة نلتقي..