السوق العربية المشتركة | التجربة الفنلندية.. وسياسات النمو المصرية

السوق العربية المشتركة

الثلاثاء 19 أغسطس 2025 - 01:48
رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
نائب رئيس مجلس الإدارة
م. حاتم الجوهري
التجربة الفنلندية.. وسياسات النمو المصرية

التجربة الفنلندية.. وسياسات النمو المصرية

تعمى سياسة تصنيع المواد الخام بدلا من تصديرها فى حالتها الأولية، الدول والمجتمعات عن فرص واعدة فى مجالات أخرى هامة، بحسب دراسة نشرها موقع منتدى الاقتصاد العالمى.



وتسوق الدراسة مثالا لتبرهن على فكرتها حيث تستعرض التجربة الفلندية، فهذا البلد حباه الله بأشجار كثيفة تفوق حاجة سكانه، مما سيدفع أى اقتصادى كلاسيكى إلى نصحها بتصدير الأخشاب، وهو ما فعلته بالضبط، بينما سيجادل الخبير التنموى بأنه يجب أن تضيف قيمة للخشب عبر تحويله إلى ورق أو أثاث، وهو ما أقدمت عليه بالفعل، إلا أن كل منتجات الأخشاب تمثل 20 بالمئة فقط من إجمالى صادرات فنلندا، والسبب وراء ذلك هو أن الخشب فتح الباب أمام مسار مختلف إلى التنمية أكثر ثراء، حيث وجد الفنلنديون أن قطع الأخشاب يفقد فؤوسهم ومناشيرهم حدتها وفى نهاية المطاف تتداعى تماما، ما يتعين معه إصلاحها أو استبدالها، الأمر الذى قادهم إلى التفوق فى إنتاج أدوات تقطيع الخشب.

وسرعان ما أدرك رجال الأعمال الفنلنديون أن بوسعهم صنع آلات تقطع مواد أخرى غير الخشب، ثم قادهم ذلك إلى أتمتة الآلات، لأن التقطيع اليدوى قد يكون مملا، وهذا بدوره أوصلهم إلى آلات مؤتمتة أخرى، لأن الحياة أوسع من مجرد التقطيع، ومن هناك انتهى بهم المطاف إلى نوكيا واليوم تمثل الماكينات من مختلف الأنواع أكثر من 40 بالمئة من صادرات فنلندا السلعية.

خلاصة القصة أن إضافة القيمة إلى المواد الخام هى أحد السبل إلى تنويع مصادر الدخل، لكنه ليس بالضرورة سبيلا طويلا أو مثمرا، وأن البلدان ليست محصورة فى المواد الخام التى تمتلكها، حيث إن سويسرا فى نهاية المطاف ليس لديها كاكاو، والصين لا تصنع شرائح الذاكرة المتقدمة إلا أن ذلك لم يمنعهما من احتلال مكانة مهيمنة فى سوق الشوكولاته والكمبيوترات، على التوالى.

وفى النهاية، تؤكد التجربة الفنلندية أن السبل الواعدة إلى التنمية لا تمر بإضافة القيمة إلى المواد الخام، ولكن بتراكم القدرات ومزج الجديد منها (مثل الأتمتة) بما يحوزه المجتمع بالفعل (آلات التقطيع).

ويقود هذا التحليل إلى طبيعة النموذج التنموى الذى ساد وركز على تحرير التجارة وتجاهل الإنتاج، إذ تشير البيانات إلى أن الصادرات السلعية والخدمية ظلت متواضعة إلى درجة كبيرة كذلك جرى تجاهل قطاعات مهمة، مثل قطاع الزراعة تحت حجج التنافسية فى القطاعات الأخرى والتى لم تحقق نجاحات تذكر.

وفى تحليل لدور الفاعلين الاقتصاديين (الحكومة والقطاع الخاص) تبين أن الحكومات تنفق على المعونات والمساعدات الاجتماعية أكثر مما تنفق على الصحة والتعليم، ويعانى الإنفاق الاجتماعى من تدنى نسب الكفاءة وارتفاع نسب الهدر، وهذا الواقع أيضاً أثر فى ممارسات القطاع الخاص الذى اهتم بالاستئثار بملكيات القطاع العام التى تحولت إليه لتزيد تركز الثروة، ولم يبادر باستثمارات جديدة مولدة لفرص العمل، وهذا يفسر كيف تزامنت صفقات التخصيص بارتفاع نسب البطالة وعجز الحكومات فى الوقت نفسه عن استيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل.

وبالنتيجة أهمِلت نوعية النمو لفترات طويلة وكان الاحتفاء يطاول الأرقام المتحققة بغض النظر عن آثارها على الفئات المختلفة فى المجتمع، فمثلاً وعلى رغم ارتفاع نسب النمو المتحقق فى بعض الدول، نمت حصة الأجور والاستهلاك من الناتج المحلى، والتى تعكس التحسن فى مستويات الرفاه بوتائر منخفضة جداً. كذلك لم تؤخذ الأبعاد الإقليمية (حضر- ريف) فى الاعتبار.

أما النظرة الجديدة المستهدفة فتتضمن جملة من المبادئ التى تقوم على ما يعرف بالنمو التضمينى الذى يفتح فرصاً متكافئة لشرائح المجتمع المختلفة. ويجب أن تضمن السياسات الجديدة الاتساق على مستوى الاقتصاد الكلى بما فى ذلك سياسات ضريبية أكثر عدالة، وتساهم فى تحسين توزيع الدخل. كذلك يجب توسيع نطاق التغطية الاجتماعية واتباع أساليب استهداف أكثر وضوحاً للحد من الهدر فى الإنفاق. ويجب اتباع سياسات صناعية لإعادة الاعتبار لبعض القطاعات مثل الصناعة التحويلية والزراعة. وضرورى التمييز بين تحديات قصيرة الأمد وأخرى طويلة الأمد تستدعى إطاراً زمنياً للتعامل معها مثل إصلاح التعليم والقطاع العام.

ولكن، واضح أن النموذج التنموى الذى ساد لعقود بات من مفردات الماضى على رغم تمسك البعض به، فالنموذج التضمينى والذى يؤمّن فرصاً متكافئة يشق طريقه، وتعترضه كثير من الصعوبات، ويواجه كثيراً من المقاومة من بعض أصحاب المصالح الذين يدركون أكثر من غيرهم كيف ستتضرر مصالحهم نتيجة التغيير. ولنجاح النموذج الجديد لا بد من إطار سياسى جامع يتميز بقاعدة اجتماعية واسعة ودرجة عالية من النزاهة وحسن التطبيق والالتزام، فالسياسات الماضية لم تكن كلها خطأ، بل إن من قاموا عليها جيروها لمصالحهم وأخرجوها عن سياقها الصحيح، وهذا يعنى أن النموذج، أو المقاربة التنموية الجديدة، تقوم على ركيزتى الإصلاح الاقتصادى الحقيقى والمنظومة السياسية التى تشرف وتراقب وتضمن تحقيق النتائج. وهذا ما يجعل العملية صعبة وتحتاج إلى وقت لتنفيذها.