د. قيس العزاوي
الريادة في الفكر السياسي لمصطفى الفقي
الريادة فن من الفنون يمتلكها مفكر او قائد نموذجي لديه قدرة التأثير والتحفيز على جموع المتلقين، وكل من يستمع للدكتور مصطفى الفقي يخرج بهذا الانطباع، فهو رائد ليس في فن التخاطب مع الاخر فحسب ولكنه رائد ايضاً في استخراج حزم الافكار السياسية التحديثية التصالحية مع الواقع، لذلك جاء اسم كتاب سيرته معبراً عن ذلك " مصطفى الفقي رائد التحديث في الفكر السياسي العربي" . وبمناسبة صدور الطبعة الثانية من الكتاب بعد ست سنوات من صدور طبعته الاولى، نقدم هذه القراءة. تكمن اهمية الكتاب بطبعته الجديدة "المزيدة والمنقحة" في ما احتواه من شذرات عن الحياة الفكرية والمهنية والدبلوماسية للفقي، ومن أهمية مداخلات عدد من المفكرين العرب المرموقين الذين كشفوا عن ابعاد جوهرية في شخصية الفقي واعتبروه قامة فكرية عربية ساهمت باعادة صياغة الفكر السياسي وتحديثه. لقد حرصنا في الصالون الثقافي العربي الذي اصدر الكتاب على تسجيل وقائع جلسات الصالون وتحريرها ونشرها، ونكاد ان نكون الصالون العربي الوحيد الذي يحرر وينشر بكتب جلساته ( أصدرنا حتى اليوم 19 كتاباً) فكان عنوان كتاب المرحوم الدكتور يحيى الجمل مثلا هو "صانع الدساتير" لكونه ساهم في كتابة دساتير عدد من الدول العربية، وكان كتاب المؤرخ اللبناني خالد زيادة بعنوان "زيادة مؤرخا واديبا" و"جابر عصفور حارس التنوير" لان التنوير كان وما زال همه وعنوان لستة كتب له، و"صلاح فضل شيخ النقاد" لعراقته واصالته النقدية و"محمد الخولي صوت العروبة" لابداعاته القومية"و"السيد يسين حارس المستقبل" لكتاباته الاستشرافية، والموسيقار نصير شمه"إشراق" و "حسن حنفي كاهن الفلسفة" وهكذا.. وقد احترنا في وضع عنوان لكتاب الفقي لكونه يحمل عدة مؤهلات وبارع ضليع في جميعها، بيد انني التقطت صفة قد لا يشاركه احد فيها، وهي فكرة ريادة التحديث، ولفرادته في هذا الشأن عربياً وجدت ان افضل عنوان لكتابه هو رائد التحديث في الفكر السياسي العربي، وذلك لأن الفقي يجسد عن جدارة ومعرفة وتجربة مفهوم تحديثي جديد في بث الافكار السياسية وهو انموذجا يحتذى في هذا المجال للاسباب التالية: أولاً: يتعامل الفقي مع عالم السياسة بنحو علمي عقلاني برجماتي يذكرنا بما احتواه كتاب السياسة لارسطو الذي مجد فيه الفكر السياسي العقلاني رابطاً السياسة بالواقع انطلاقا مما هو كائن وليس مما ينبغي ان يكون، وهذا تحديث لعلم قديم عزفت عنه سياساتنا رغم كوننا نقلنا الى الغرب فلسفة اليونان وعلومهم. ثانياً: يذكر الفقي في كتابه هذا انه اختار في حياته الاجتهاد والخروج عن النواميس التقليدية للتفكير المتجمد ومناقشة القضايا الخلافية بكثير من الشجاعة، وتلك لعمري احدى اهم ابداعاته الفكرية التحديثية التي انعكست على حياته السياسية والمهنية فأضفت عليها عصرنة جريئة. ثالثاً : يعترف الفقي في كتابه هذا انه اختار أن يكون قريب من السلطة لأن القرب من صناع القرار انفع، وهذا يعني انه وبقرارة نفسه اختار العزم عن وعي وارادة، القيام بمهمة فكرية تغييرية من خلال محاولته تجسير الفجوة بين المثقف والسلطان، وتلك لعمري ارادة تتطلب جراءة الموقف وقدرة التبرير. رابعاً: لقد برع الفقي في حياته الدبلوماسية بما اسماه البروفيسور آلان بلانتي إظهار قدرات خيالية وقوة في الملاحظة وبراعة في الاداء، فالدبلوماسية فن راقي دقيق تظلله الشكوك وهي عبارة عن توليفة من الحنكة والاخفاء والتكنيك، وقد تألق الفقي في هذا المجال ويشهد على ذلك مساره الدبلوماسي. خامساً:عبر الفقي عن اعجابه بجهود الدكتور بطرس غالي عندما قام بتحديث كبير في تاريخ الخارجية المصرية ونقلها من وزارة باشاوات الى وزارة تنظيمية علمية، وهو ما فعله الفقي عندما أنزل الخطاب الدبلوماسي العربي من برجه العاجي ليصبح خطاباً جماهيرياً بلغة ميسورة مبسطة محببة، ويشهد على ذلك الاقبال الجماهيري الكبير على مداخلات الفقي ورواج كتاباته ومحاولاته اعادة هيكلة الدبلوماسية لحماية المصالح الوطنية على اساس من المهنية والوعي بالتحديات بما يواكب التغييرات السياسية. سادساً: لقد أمن الفقي بمبدأ التعددية في اطار وحدة الهدف، فهو متعدد التخصصات والاهتمامات والانتماءات يقول عن نفسه انا ابن الريف وابن الحضر وابن المدينة وابن مصر وابن العروبة وابن اوروبا تفتحت على الثقافات العربية الاسلامية والغربية المسيحية بنفس القوة.. سابعاً:ومما سبق يتضح لنا ان الفقي هو بالفعل رائد للتحديث في الفكر السياسي العربي عن جدارة، فهو يتخذ من الدبلوماسية في بعدها الاجتماعي أداة لتحقيق اهداف السياسة الخارجية عن طريق التواصل مع مؤسسات المجتمع المدني في الدول كافة، فهو عضو او رئيس لاكثر من 40 مؤسسة مجتمع مدني عربية ودولية.