
محسن عادل
رفع سعر الفائدة.. ما بين الجراءة الاقتصادية وضرورات التضخم
لا يمكن وصف قرار لجنة السیاسة النقدیة للبنك المركزى المصرى فى اجتماعها الاخير برفع سعرى عائد الإیداع والإقراض للیلة واحدة بواقع ١٠٠نقطة أساس لیصل الى 9.25% و10.25% على التوالى، ورفع سعر العملیة الرئیسیة للبنك المركزى بواقع ١٠٠ نقطة اساس لیصل الى 9.75%، ورفع سعر الائتمان والخصم بواقع ١٠٠نقطة اساس لیصل الى 9.75% سوى بأنه «جراءة اقتصادية» فى وقت تشهد فيه البلاد سلسلة من القرارات الاقتصادية غير المسبوقة والتى يعلم كل المراقبين اثرها على التضخم فى وقت لم يهدأ فى الشارع المصرى اقتصاديا بعد ان هدأ سياسيا فى ظل قيادته الجديدة، ففى الوقت الراهن، وبعد مرور نحو ثلاث سنوات على ثورة يناير ها هم صانعو السياسات النقدية يجاهدون مرة أخرى من أجل العثور على الحلول المناسبة لارتفاع الأسعار للمواد الغذائية والسلع وها هو التضخم يطل بوجهه مرة أخرى وسط ركود اقتصادى واضح.
ان الأفكار بشأن الطريقة المثلى للسيطرة على الأسعار دون تقويض انتعاش الاقتصاد هى كثيرة. والنتيجة دوما معضلة بشأن السياسات التى يتعين على البنوك المركزية انتهاجها كون أى منها لا يملك الجواب السهل على ذلك، وربما حتى الجواب المؤاتى والمثير للبهجة نهائيا. وقد يتسبب رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم بمعضلة اقتصادية أخرى، بينما البقاء مسترخين حيال ضغوط الأسعار يهدد بالعودة الى معدلات التضخم المرتفعة التى شهدها الجيل السابق.
ومع خشية البعض من أن التضخم يسير ربما على نمط السبعينيات باتجاه الصعود المستمر، بينما يرى آخرون أن الارتفاعات الحالية فى الأسعار تخفى الانكماش فان عمل البنوك المركزية قد خرج فجأة عن الطريق الذى يتبعه. وكل من الأمرين بحاجة الى علاج مؤلم. ولا يوجد بلد تسلط الضوء فيه على مخاطر السياسة بشكل صارخ أكثر من مصر حيث القوى الاقتصادية تمتزج مع معدلات تضخم متباينة للغاية كما ان معدل البطالة المرتفع، يخلق ما يسميه الخبراء الاقتصاديون «فجوة فى الانتاج» بين مستوى الانتاج وحجم ما يمكن للدولة أن تنتجه فى ظل حالة التوظيف الكاملة لعمالتها والذى يمنعها منه الركود الاقتصادى الممتد منذ سنوات .
بمراجعة عوامل التضخم المحلى فإنه يجب الحذر من الاستهانة بالعوامل الداخلية فالإنفاق الحكومى على مشاريع خطة التنمية لم يأخذ مداه بعد. ومن المتوقع ارتفاع الطلب العام على السلع والخدمات بشكل كبير هذه السنة، خصوصا مع بدء تنفيذ جوانب كثيرة من خطة الحكومة للتنشيط الاقتصادى كما ان الإنفاق الاستثمارى الذى تمارسه الحكومة يؤدى دون شك إلى تحفيز الطلب الخاص الى جانب عنصر انخفاض النشاط التصديرى وذلك بخلاف الزيادات السعرية الناتجة فى الاساس عن تعديل سياسات الدعم للطاقة والسياسات الضريبية.
لذلك فيبدو جليا أن معدلات التضخم تحت ضغوط عديدة خلال العام الجارى، مما سيحتم على السلطات النقدية اتخاذ إجراءات مناسبة للحد منها وأبرز هذه الإجراءات المتعارف عليها رفع الفائدة الأساسية، مما سيخلق مشكلة أخرى فى قطاع شركات ما زال عبء الديون يثقل كاهله، وفى اقتصاد لايزال فى كبوته فبالفعل اصبح عامنا الجارى هو عام التحديات الاقتصادية.
من هذه المقدمات كان قرار رفع الفائدة بالفعل «جراءة اقتصادية» حيث استهدف السيطرة على توقعات التضخم والحد من الآثار السلبية المرتقبة لارتفاع المستوى العام للأسعار فى المدى المتوسط بعد قرارات الحكومة الأخيرة بتعديل أسعار بعض السلع المحددة إدارياً متضمنة الوقود والكهرباء والسجائر، فمن المتوقع ان يؤدى الأثر المباشر للتعديلات فى الأسعار إلى ارتفاع الرقم القياسى العام لأسعار المستهلكين بنهاية الشهر الجارى فى ظل أن الأثر غير المباشر والأثر الثانوى للقرارات قد ينعكسا على التضخم العام والتضخم الأساسى خلال الربع المنتهى فى سبتمبر المقبل وذلك بدرجات متفاوتة مما يرفع من حجم المخاطر المحيطة بالتضخم.
من هنا دفع المركزى بادواته النقدية بهدف السيطرة على توقعات التضخم، والحد من الارتفاع العام فى الأسعار لما له من عواقب سلبية على الاقتصاد الكلى فى المدى المتوسط فخطوات تحريك الأسعار تأتى ضمن برنامج توحيد المالية العامة لعام 2014/2015 والتى ستؤدى إلى تحسين الاستدامة المالية فى المدى المتوسط، إلا أنها ستدفع لزيادة نسبية فى المستوى العام للأسعار، ما دفع اللجنة إلى رفع العائد للسيطرة على ارتفاع الأسعار رغم ما قد يترتب عليه من ارتفاع تكلفة خدمة الدين المحلى والاقتراض الحكومى، لكن قد يكون مؤقتًا ولن يستمر لفترة زمنية طويلة، لحين استيعاب الآثار المترتبة على رفع الأسعار لذلك فقد عمل المركزى على الحفاظ على توازن العلاقة بين معدلات الادخار ومعدلات التضخم فى ظل سعى الدولة لزيادة معدلات النمو.
وبنظرة مستقبليه فان المخاطر النزولية المحيطة بتعافى الاقتصاد العالمى ما زالت مستمرة على خلفية التحديات التى تواجهه بعض دول منطقة اليورو وتباطؤ النمو فى الاقتصاديات الناشئة وقد تؤدى هذه العوامل مجتمعة الى زيادة مخاطر انخفاض معدل نمو الناتج المحلى الاجمالى مستقبلا لهذا فإن تقليل الدعم الموجه للوقود والطاقة سيسهم فى تغيير انماط الاستهلاك وترشيدها لصالح ضغط استيراد هذه المنتجات وتوفير العملة الصعبة التى ترهق ميزان المدفوعات وتضغط على العملة الوطنية، وهو الإجراء الذى ترتب عليه ارتفاع فى الأسعار، وكان حتميا أن يواكبه رفع سعر الفائدة لامتصاص السيولة الفائضة بالسوق وخفض الطلب على السلع ومن ثم تهدئة الاسعار .
الا ان ابرز المخاوف من هذا القرار تتمثل فى انه سيشكل صدمة أسعار للاقتصاد خاصة و«أنه تضخم لا يحركه الطلب» كذلك فان الاستثمارات التى تنتظر منذ بضع سنوات ربما تتباطأ الآن عما تريده الحكومة فستظل الاستثمارات تتعافى لكن التكلفة المرتفعة للتمويل تعنى أنها لن تتعافى بالسرعة التى كنا نأملها فى السابق كما ان هناك شكوكا كبيرة فى حدوث ارتفاع عائد أذون الخزانة الحكومية فى الأجل المتوسط (ثلاثة شهور) كنتيجة لقرار لجنة السياسة النقدية الا ان السندات عادة ما تكون أقل تذبذبا مع تغير فائدة الكوريدور لذا اصبحت هناك ضرورة أن تلجأ الحكومة، إلى بدائل فى خفض الدين العام المحلى كما قامت الدول الأخرى، وذلك من خلال مبادلة جانب من هذا الدين بأصول عامة منتجة أو جزء منها، خاصة الديون المستحقة للمؤسسات السيادية مثل التأمينات والمعاشات، إلى جانب طرح نسب من الاصول المنتجة للاكتتاب العام للمصريين وتوجيه حصيلتها لخفض الدين العام المحلى .
بتحليل الخطة الحكومية المصرية يتضح انها تهدف لوضع إجراءات تقشف على مدى السنوات القادمة تخفض من العجز الحكومى وتقلل من حجم الدين العام وخدمته، لكن دون التأثير على الطلب الكلى بإطلاق حزم تحفيز من أموال الخليج تذهب مباشرة للاقتصاد لذلك فإن إعادة هيكلة الدعم وأنظمة الضرائب ليس بالضرورة أن تقترن بسياسة اقتصادية انكماشية، وانما يجب على الحكومة أن تتخذ من القرارات الاقتصادية المحفزة للاستثمار والإنتاج بما يساعد على زيادة الدخل القومى ومن ثم استيعاب الآثار الناتجة عن تحريك أسعار السلع الاستراتيجية خاصة أن تأثير رفع الفائدة على قرار الاستثمار لا يحكمه سعر الفائدة فقط بل عناصر كثيرة اهمها الثقة فى الاستقرار الاقتصادى وتيسير بيئة الاعمال، وتطوير التشريعات الاقتصادية ومعدلات تكلفة الاقتراض .
إن ملامح الخطة الاقتصادية للحكومة حتى الان تبدو شبيهة بتلك التى تم تبنيها فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، عندما أقدمت الحكومة المصرية آنذاك على إصلاحات هيكلية عميقة باستخدام التدفقات النقدية الضخمة التى حصلت عليها من الخليج، وطبقا لاتفاق «نادى باريس»، وقد أدت هذه الإجراءات بالفعل إلى تخفيض العجز، إلا أنها صوحبت بسنوات من الركود، خاصة مع عدم القدرة على زيادة الصادرات للخارج، وهو ما لا يبدو أن النظام السياسى الجديد فى مصر بقادر على تحمل عواقبه فى المرحلة الراهنة، ومن هنا فإن كلمة السر فى استعادة النمو الاقتصادى، وفى إصلاح الخلل الهيكلى فى مالية الدولة، هى الأثر المنتظر لتدفقات استثمارية خليجية ضخمة منتظرة فى السنوات القادمة، ومدى قناعة المستثمرين المحليين والأجانب بأن مصر تتجه نحو استقرار سياسى يبرر ضخ المزيد من الاستثمارات فى الاقتصاد.
أن البنك المركزى، هو الأجدر على تحديد الآليات المناسبة لتقليل حدة الآثار التضخمية، لهذا فإن اتخاذ قرار بتغيير سعر الفائدة سلاح ذو حدين لاسيما أن هذا القرار من شأنه أن يضفى بظلاله على النشاط الائتمانى والاستثمار، الذى من المستهدف تنشيطه خلال الفترة المقبلة، وعلى الجانب الآخر فإن ارتفاع التضخم يأكل الفائدة بما ينعكس على مدخرات الأفراد وشعورهم بحصولهم على فائدة سالبة لذلك فان الفترة الحالية تستلزم سياسات للتحفيز الاقتصادى والاستثمارى، وهو أمر يثير ضغوطا قوية على صانعى السياسة النقدية، خاصة أن ارتفاع الدين المحلى ومحاولات السيطرة على تكلفته بكل السبل لتحجم نمو اعباء تكلفة خدمة الدين لايزال عنصرا حاكما فى صناعة السياسة المالية للدولة فى مرحلة ما بعد الثورة.