خبراء : معدل التنقيب عن الآثار ونهبها تجاوز 90 %.. وعلى الدولة تغليظ العقوبات على الجناة
«السوق العربية» تدق ناقوس الخطر وتحذر من مافيا التنقيب عن الآثار
مصر مهبط الرسالات ومهد الحضارات التى تذخر بأكثر من ثلثى آثار العالم والتى احتضنت فى معابدها وعلى أرضها آثارا من كل العصور حتى أصبحت مزارا سياحيا لعشاق التاريخ والفن المعمارى، وتعتبر مصر القديمة موطن أهم الحضارات فى التاريخ وتركزت حضارتها القديمة فى الشمال الشرقى لإفريقيا حيث تركزت حضارة المصريين القدماء على ضفاف نهر النيل، وبدأت الحضارة المصرية حوالى عام 3150 ق.م، وذلك عندما وحد الملك مينا وهو ملك فرعونى مصر العليا والسفلى، وقد تطورت بعد ذلك على مدى الثلاثة آلاف سنة اللاحقة وضمت سلسلة من الممالك المستقرة سياسياً، إلا أنه تخللها فترات عدم استقرار نسبى وتسمى تلك الفترات بالمتوسطة، وبلغت مصر القديمة ذروة حضارتها فى عصر الدولة الحديثة، ومن ثم دخلت فى فترة انحدار بطىء، وتعرضت مصر فى حينها إلى العديد من الاعتداءات من قبل العديد من القوى الأجنبية، ولقد انتهى حكم الفراعنة فيها رسمياً عندما غزت الإمبراطورية الرومانية مصر وجعلتها إحدى مقاطعاتها وتحت إمرتها.
كل ما سبق جعل من مصر مزارا سياحيا بكل ما فيها من عبق التاريخ الموثق على جدران المعابد الشاهقة والتماثيل البديعة والآثار التى ليس لها مثيل حول العالم كله، وهذه ثورة حقيقية لمصر وشعبها وإن كان البعض لا يقدرها، وقد رأينا على مر التاريخ دولا تدعى الحضارة والتقدم تسرق من آثار مصر لتعرضه فى متاحفها حتى يومنا هذا، وللأسف الشديد حذا بعض معدومى الضمائر إلى التنقيب بأنفسهم عن الآثار لسرقتها وبيعها من أجل المال دون أن يدرى هؤلاء أنهم لا يبيعون آثار بلدهم فقط بل يبيعون تاريخهم وحضارتهم بثمن بخس، فقد إنتشر فى الآونة الأخيرة حالات التنقيب الفردى والجماعى عن الآثار بعيدا عن الدولة المصرية وهو ما نتج عنه إمبراطورية التنقيب عن الآثار فى كل مكان التى تعبث بتراث مصر وحضارتها بحثا عن المال، السوق العربية تفتح ملف مافيا التنقيب عن الآثار وتناقش الخبراء فى أضراره الاقتصادية.
من جانبه قال الدكتور أحمد عوض الخبير الاثرى إن جنون البحث والتنقيب عن الآثار أصاب البعض ممن لا ضمير ولا وعى لهم فى زمن الانفلات الأخلاقى وتتضاعف أعداد هؤلاء الفاسدين، وبدلا من مواجهة زعماء هذه العصابات أصبح على أجهزة الأمن دخول مواجهات مع المئات من صبيانهم الذين تحولوا بين عشية وضحاها إلى أسماء كبيرة فى عالم الحفر والتنقيب عن الآثار والتجارة فيها وربما تصديرها من المطارات والموانئ دون اكتراث بأى جهة أمنية، ويرجع ذلك بسبب حلم الثراء فى ظل البطالة الخانقة جعل البسطاء يدخلون اللعبة، وانتشر هوس الحفر فى المدن والقرى وتحت المنازل بحثا عن قطعة أثرية واحدة قد يصل ثمنها إلى 30 مليون دولار إذا توافر الحظ، وقد يؤدى إلى انهيار المنزل أو منازل الشارع كله إذا كان الحفارون عديمى الضمير وأن المنقبين عن الآثار قد يتقابلون فى أنفاق تحت الأرض، وكل منهم يخفى عن الآخر سر ما يفعله، برغم أنهم يعيشون فى منازل متجاورة، وقد يصل الأمر أحيانا إلى نزاعات بالأسلحة وضحايا بالعشرات بين قتيل وجريح
وأضاف عوض أنها لعبة جديدة قديمة لها روادها ورجالها، لكن المشكلة الحقيقية أنها تحولت إلى وظيفة لا تقتصر على الكبار، لكن السوق دخله صبية كثيرون فقد زاد معدل النهب على 90%، فالبحث والتنقيب عن الاثار حلم لا ينتهى فى كثير من المحافظات الغنية بالآثار والباحثون عنه كثيرون وحلمهم بالعثور على ذلك الكنز المدفون لا ينتهى وعمليات البحث ليس لها مكان محدد وإن كانت هناك مناطق معينة تشتهر بعمليات البحث المستمر كمنطقة البر الغربى فى الأقصر مثلا حيث تقع المقابر الفرعونية خاصة فى منطقة جبل القرنة، حيث تقع مقابر الاشراف وهناك أيضا فى البر الشرقى فى منطقة الكرنك وبالقرب من معبد الكرنك وان كانت القضية الأشهر قضية نجلى النائب السلفى عضو مجلس الشعب السابق عن إحدى دوائر محافظة سوهاج اللذين تم القبض عليهما أثناء قيامهما بالتنقيب عن الآثار.
وذكر عوض أنه من الأمثلة الحية على ذلك منطقة تعد صاحبة النشاط الأكبر فى عمليات البحث عن الآثار فهى مدينة اسنا، وهناك من فقد حياته بسبب وهم العثور على الكنز فهناك مواطن من اهالى الكرنك انهار عليه جدار منزله أثناء قيامه بأعمال الحفر والتنقيب العام الماضى وقبلها فقد عشرة أشخاص فى محافظة قنا حياتهم أثناء قيامهم بحفر بئر للتنقيب عن الآثار بقرية المناصرة والعديد من الأرواح التى فقدت ما بين محاولات ما سمى فكر الرصد الفرعونى وعمليات التنقيب فى عمليات الرصد عن طريق تقديم القرابين والدماء البشرية للرصد، كما حدث فى مدينة أرمنت جنوب الأقصر حين راح شاب ضحية لمثل تلك الأعمال، التى يسعى القائمون بها للوصول إلى الكنوز الفرعونية وكذلك حادثة اختطاف الطفل محمود محمد لتقديمه كقربان للكشف عن كنز فرعونى بقرية العشى شمال الأقصر، ونجاته من موت محقق بعد إنزاله بالحبال داخل بئر لتقديمه قربانا لما يسمى الرصد الذى يعتقد المشعوذون فى قيامه بحراسة أحد الكنوز الاثرية، حيث ينشط المشعوذون فى القرى والنجوع المتاخمة للمناطق الأثرية بحثا عن الآثار والذين يطلبون أحيانا قرابين آدمية الرصد حارس الكنز ويبثون فى تلك الأوساط انه جنى يرفض اقتراب أحد من كنزه الذى يحرسه ربما منذ أكثر ثلاثة آلاف عام وهى أقصى عمر للرصد كما تشيع الحكايات الشعبية.
واضاف عوض ان الوزارة تتخذ كل الحيطة والحذر خاصة فى تلك الآونة للتصدى لتلك المهاترات الاخلاقية فى حق تاريخ الدولة وانى اتساءل اين ضمير هؤلاء ألم يستشعر احد منهم بالخزى حينما ياخذ ثمن بيع تاريخه العظيم الذى يحترم خارجيا قبل داخليا؟ فمن قوة الاقتصاد السياحى خاصة السياحة التاريخية قامت الصين باستنساخ نسخة من الاهرامات وابوالهول وجعلتها مزارا سياحيا يدر دخلا كبيرا وذلك فى مخالفة صريحة للأعراف الدولية والقانونية المنظمة له ومع الاسف تستغل الدول التى بها اثر مصرى ترويجه اكثر من بلد الاثار والحضارة نفسها.
وتقول الدكتورة هبة عبدالرزاق خبيرة الآثار أنه بحسب تقديرات مراقبين فقد حصدت تلك الظاهرة المثيرة للجدل أرواح عشرات المصريين خلال عمليات التنقيب غير الشرعية عن الآثار فى السنوات الماضية، وتتعرض الآثار لمحاولات سرقة على أيدى لصوص الحضارة ممن يمنون انفسهم بثروة ضخمة تهبط على رءوسهم من السماء ذلك الحلم الذى لم يتحقق مع انتشار محاولات التنقيب عن الآثار أسفل العديد من بيوت القرى والمراكز، الأمر الذى يؤدى إلى انهيارها على رءوس أصحابها نتيجة قلة الوعى واستغلال تدهور الحالة الأمنية للبلاد سابقا خاصة فى زمن ما بعد الثورة فى حين أن مسئولى الآثار يمنعون الحفر أو حتى إعادة بناء البيوت المتاخمة للمناطق الأثرية قبل الحصول على تصريح.
وأضافت خبيرة الآثار أن هناك مناطق كثيرة تعرضت للتنقيب والنهب والسرقة وهو ما أثر بشكل كبير على مخزون مصر من الآثار خلال السنوات الماضية ومن أكبر الأمثلة على ذلك أكبر منطقة أثرية ببنى سويف (مدينة أهناسيا) عاصمة مصر فى العصر الفرعونى التى تعرضت لمحاولات السرقة وهدم أسوارها الحديد التى تحيط بها لحمايتها فى ظل الرقابة الأمنية وتمت بالفعل محاولة سرقة تمثال أثرى للملك سنوسرت من المنطقة الأثرية، حيث قام مجموعة من الأشخاص بالحفر فى منطقة الكيمان التى تحتوى عددا من الآثار التى تم اكتشافها خلال السنوات الماضية فضلا على احتوائها العديد من الاكتشافات الأثرية المدفونة بباطن الأرض، وقد تمكن اللصوص من الكشف عن نصف التمثال بعد التنقيب بالمنطقة وعثروا على التمثال الذى يبلغ طوله مترين وعرضه140 سم ويجلس على قاعدة من الرخام وهو من الجرانيت الأحمر، ويوجد أعلى الذراع اليسرى للتمثال نقوش باسم الملك مرنبتاح ونفوش أخرى على الجانب الأيمن توضح مراسم التتويج مع كتابات هيروغليفية ما يوضح ان التمثال يخص الملك سنوسرت الثالث الذى ينسب إلى الأسرة الثانية عشرة لكن محاولاتهم باءت بالفشل بعد أن تصدت لهم قوة من الحراسات وعقب إحباط محاولة السرقة قامت لجنة فنية من الآثار بنقل التمثال إلى مقر المخزن المتحفى.
وأكدت أيضا أن انتشار عدوى البحث والتنقيب عن الآثار بمختلف محافظات مصر ومعظم القرى نتيجة لنصائح بعض الدجالين والسحرة الذين يقنعون الأهالى بالحفر أسفل منازلهم بدعوى وجود آثار بها مستغلين سعى الأهالى وراء هوس الثراء السريع والبحث عن الكنز الملعون فتتم الاستعانة بالدجالين والمشعوذين لتحديد مكان الآثار الفرعونية فى منزله.
أساطير شعبية
وعن عمليات الحفر والتنقيب يقول أحد كبار العاملين فى هذا المجال الذى رفض ذكر اسمه: يوجد ثلاث مدارس تعمل فى مجال الكشف عن الكنوز الأثرية بصعيد مصر هى المصرية والمغربية والافريقية وأقوى تلك المدارس هى المدرسة المصرية التى يتمركز شيوخها فى الأقصر وأسوان والقاهرة تليها المدرسة الافريقية ثم المدرسة المغربية فى المرتبة الثالثة بعد ان كانت تحتل المركز الأول طوال سنوات مضت، وأن المدرسة المغربية يعتمد شيوخها على الروحانيات، وأن شيوخ المدرسة المصرية يعتمدون على الخبرة بجغرافية المكان والمعلومات التاريخية بجانب الروحانيات، فيما يعتمد شيوخ المدرسة الافريقية على السحر الأسود.
ولكل نوع من الخدام طريقته فى العمل، ولكل منهم طريقة يسخر بها للعمل من قبل الشيخ، وأن الخادم الذى يكون على نجاسة يكون أكثر خطورة على من يعملون فى الحفر والتنقيب، كما انه يطلب اشياء محرمة وصعبة من شيخة مقابل ان يرشد عن مكان الكنز، عكس الخادم الذى يكون على طهارة فمنذ سنوات ذبح طفل غرب الأقصر، وخطف آخر شرق المدينة لذبحه وتقديم دمه قربانا لفك رصد فرعونى يحرس كنزا نتيجة الاستعانة بشيخ يستعين بخادم من العالم السفلى، وهناك مدارس وشيوخ يرفضون ذلك ويعتبرونه جريمة لا تغتفر. ودور الخادم هو فك ما يسمى الرصد وصرف أى حراس على الكنز، وبعض الكنوز يسخر لها الجان خداما لحراستها.. وقال أحد الشيوخ انه يسخر الجان لمساعدته فى الوصول لمكان الكنز وانه يحكى للجان ويتبادل معه الحوار ويجند الجان لخدمته.
القانون
اشار الدكتور ايمن جودة استاذ القانون الجنائى إلى ضرورة تفعيل قانون حماية الاثار بقوة الذى ينص على أنه “يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على خمس، وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألفًا، كل من نقل بغير إذن كتابى صادر عن المجلس الأعلى للآثار، أثرًا مملوكا للدولة أو مسجلاً أو نزعه من مكانه، أو حول المبانى أو الأراضى الأثرية أو جزءًا منها إلى مسكن أو حظيرة أو مخزن أو مصنع أو زرعها، أو أعدها للزراعة أو غرس فيها أشجارًا أو اتخذها جرنًا أو شق بها مصارف أو مساقى أو أقام عليها أى إشغالات أخرى أو اعتدى عليها بأى صورة كانت دون ترخيص طبقاً لأحكام هذا القانون”.
كما ينص قانون حماية الآثار على أن العقوبة تكون على من استولى على أنقاض أو سماد أو رمال أو مواد أخرى من موقع أثرى أو أراضٍ أثرية دون ترخيص من المجلس الأعلى للآثار، أو تجاوز شروط الترخيص الممنوح له فى المحاجر، وأضاف إلى الموقع أو المكان الأثرى أسمدة أو أتربة أو نفايات أو مواد أخرى، أو جاوز متعمداً شروط الترخيص له بالحفر الأثرى، واقتنى أثراً أو تصرف فيه على خلاف ما يقضى به القانون، وزيف أثراً من الآثار القديمة.
واضاف ايمن ان لم يتم تنفيذ تللك البنود علنية وبسرعة ربما اختفت حضارة السبعة الاف عام فى اقل من سبع سنوات فقط لان مافيا التنقيب عن الاثار فى تزايد بسبب حالة الركود الاقتصادية التى تحدث من حين إلى اخر مع غياب الوعى باهمية تلك الاثر الادبية والتاريخية.
فتوى التنقيب
التنقيب عن الآثار من الأعمال التى تشرف عليها الدولة أو ولى الأمر، يتم فيها التفتيش عن آثار الأمم السابقة، مسلمة كانت أم غير مسلمة، ثم إظهارها وإبرازها للناس.
والناس بعد ذلك لهم فى هذه الآثار اتجاهات شتى:
فمن زارها ونظر إليها لاتخاذ العبرة والعظة أو للاطلاع على تاريخ الأمم وحضارات الشعوب، خاصة إذا كانت آثارا إسلامية تظهر عظمة التاريخ الإسلامى: فذلك مقصد صحيح وغرض شرعى مقبول، إذ القرآن الكريم ملىء بالدعوة إلى التفكر والتأمل فى آثار الأمم السابقة، كما قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَن فَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) آل عمران/137، وقال عز وجل عن قوم ثمود: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) النمل/52، وقال سبحانه عن قوم لوط: (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) العنكبوت/35.
أما إذا كانت آثارا غير إسلامية، ونظر إليها الزائر نظر تقديس دينى، فقد وقع فى المحظور.
وعلى كل حال فالعامل فى التنقيب تحت إشراف وزارة الآثار لا إثم عليه، فقد أقره النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك حين قال: (وفى الركاز الخمس) متفق عليه، فإيجاب الزكاة على من وجد شيئا من آثار السابقين يتضمن الإذن بتملك ذلك الركاز وبيعه وشراؤه، إلا إذا اشتمل على الأصنام والتماثيل أو غيرها من المحرمات، فلا يحل الانتفاع بها حينئذ.
أما من يعمل فى التنقيب عن الآثار لحسابه الخاص، فقد خالف الأنظمة التى وُضعت لمصلحة الأمة عامة، وعرض تلك المصلحة للاعتداء، فلا يحل له ذلك. والله أعلم.