القرية المصرية غير المنتجة
ولدت وعشت طفولتىى بإحدى قرى محافظة الدقهلية، وهى أعز الأماكن لدى، وأتردد على القرية فى وقت لآخر منذ بدأت الدراسة وحتى الآن، وكانت قريتى وغيرها من القرى منتجة تكتفى ذاتياً من كافة المواد الغذائية، وقد ذُهلت لما وصل إليه حال قريتى وبالطبع باقى القرى المصرية، حيث غابت الإنتاجية والاكتفاء الذاتى وزاد الإسراف والانفاق بشكل سفهى، فقديماً لم يكن بالقرية كهرباء أو مياه للشرب، فكنا نعيش ليلاً ونستذكر دروسنا على لمبات الجاز بدءاً من اللمبة الأيادى ذات الشريط دون زجاجة ومروراً باللمبة الزجاج نمرة خمسة وانتهاء باللمبة الجاز نمرة عشرة، وكان الميسور حالاً من أبناء القرية يستخدم الكلوب الجاز أبورتينة عند المذاكرة وفى المناسبات الاجتماعية فقط، وكنا نشرب من مياه النيل حيث نضعها فى الزير الفخار لترشيح المياه التى تنزل من على جداره فى إناء أسفله نقية وصالحة للشرب، وكان الفلاح يشرب أحياًنا من مياه النيل مباشرة خاصة من مراوى الأرز فى الصيف، حيث تكون المياه صافية. والآن توجد الكهرباء بالقرية فى كافة المنازل وفى الشوارع وأهلى يشكون من زيادة قيمة فواتير الكهرباء وجميعهم لا يرشدون استهلاكها ويتركون الاضاءة ليلاً ونهاراً دون مقتضى، بل إن شوارع القرية تجدها مضاءة أحياناً بالنهار دون رقيب، ولو رشد الفلاح فى القرية استخدامه للكهرباء لقلت قيمة الفاتورة الخاصة به، أما المياه الصالحة للشرب فموجودة فى كل منزل وجميعنا نشكو من ارتفاع قيمة فواتيرها، وهذا الارتفاع سببه سوء استهلاكنا للمياه، ويكفى أن نعلم أن المواشى فى قرانا (الجاموس- البقر- الأغنام-الحمير) كانت تشرب باستمرار من مياه النيل، وقد عودها الفلاح على أن تشرب من مياه الشرب النقية وترفض الآن الشرب من مياه النيل. وفى الصباح الباكر قبل طلوع الشمس كان الفلاح يذهب إلى أرضه ومعه المواشى وطعام الغداء الخاص به، أو تحضره إليه زوجته فى الحقل، وكان يعمل فى حقله حتى غروب الشمس فيعود ومعه مواشيه إلى منزله ليخلد إلى النوم مبكراً فى الثامنة أو التاسعة مساءً على الأكثر.. ولم يكن بالقرية مقاهٍ أو تلفزيونات، والآن لا يذهب الفلاح إلى حقله إلا بعد طلوع الشمس بساعتين أو ثلاث ويعود إلى منزله عند صلاة الظهر، وعندها ينتهى يوم عمله، ولم يعد بالقرية الا القليل من الابقار والجاموس والأغنام، ويسهر الفلاح ليلاً إلى الواحدة أو الثانية صباحاً أمام التليفزيون أو فى المقهى.
وكانت قريتى وغيرها من القرى لا تشترى شيئاً من المواد الغذائية سوى الشاى والسكر والزيت، لأنها تنتج الأرز والقمح وكل منزل يخبز عيشه الفلاحى، وكنا نصطاد الأسماك من الترع والمصارف ومن قنوات الأرز وكانت متوافرة بكثرة، أما باقى المواد الغذائية من الخضروات والبقوليات فيزرعها ليأكل منها هو ومن لم يزرعها، فالأرض تنتج خيرات بتكلفة زهيدة جداً، وكان بالقرية عدد كبير من الأبقار والجاموس ولا يكاد يخلو أى منزل منها، ولذا كانت الألبان متوافرة فى كل منزل وكان الفلاح يشرب منها ويعمل منها الجبنة والسمنة البلدى، وفائض الألبان كان يباع يومياً فى الصباح وفى المساء لمصانع الأجبان، والآن لم يعد فى أى منزل فى القرية إلا القليل جداً من الابقار أو الجاموس وفلاحى القرية يشترون الألبان المعلبة والجبنة المصنعة والسمن، ولا يوجد فى أى منزل بالقرية كانون للطهى أو فرن بلدى لعمل العيش وكلاهما كان يستخدم مخلفات الزراعة للوقود، ولم يعد بالقرية امرأة واحدة تخبز العيش والكل يعتمد على عيش وزارة التموين وعلى البوتاجاز، ولم يعد الفلاح يعرف حرفة اصطياد الأسماك من الترع والمصارف والمساقى لأكله، كما أن تلك الأسماك قلت بشكل ملحوظ، ومن النادر أن تجد فلاحا يزرع على جسور أرضه خضروات أو بقوليات ولذا يشترى كل شيء.
وكان منزلنا القديم فى شمال القرية على ترعة النيل مباشرة وكنا نستمتع قبل غروب الشمس برؤية أسراب البط والأوز وهى تخرج من الترعة فى طابور منتظم وتسير فى شوارع القرية وكل منها يدخل إلى منزله من تلقاء نفسه، دون أى توجيه، وكان كل منزل بالقرية يربى الطيور من الفراخ والحمام والأرانب ليكفى حاجته، والآن من النادر أن تجد فى القرية أى شىء من تلك الطيور والكل يشترها ليأكلها.
والفلاح الجيد نفسه انقرض وأبناء الفلاحين لم يتعلم معظمهم مهنة الزراعة، وقد غابت الدولة ممثلة فى وزارة الزراعة عن القيام بدورها فى تدريب وتطوير هذه النوعية من العمالة، ومشرفى الجمعيات الزراعية لا يقومون بأى دور فى ارشاد الفلاح أو تدريبه وهم أنفسهم لا يفقهون شيئاً فى الزراعة.. أما عن الانفاق السفهى فى القرية فحدث ولا حرج، فمثلاً الفلاح البسيط الذى يملك ثلاثة أو أربعة أفدنة عندما يزوج ابنة ينفق على ليلة الفرح (سهرة ومعازيم وأضواء) من 20- 40 ألف جنيه وكله فشخرة على الفاضى، وعندما يجهز ابنته الفلاحة للزواج يكون جهازها أفضل وأكثر من البنت خريجة الجامعة الأمريكية، فمثلاً من الغسالات ثلاثة واحدة أوتوماتيك والثانية نصف أوتوماتيك والثالثة للأطفال، وكمان بيشترى لها فرن عيش وخبازة وعجانة وهى لا تخبز فى بيتها، ويكفى أن نعلم أن الفلاح الآن يشترى السمك مشوى جاهزا للأكل.
هذا هو حال القرية المصرية التى لم تعد منتجة، فهل نجد من الدولة بكافة أجهزتها ومن المختصين فى كافة المجالات ما يعيننا إلى إعادة القرية لتكون منتجة؟