الموازنـة بين الأمـن وحقــوق الإنسان
الأمن نعمة يهبها الله للمواطن، وتلك الهبة لا تعادلها أموال الدنيا كلها. ويقوم على حفظ أمن المواطن جهاز الشرطة، وبعض عمليات حفظ الأمن قد تقتضى التعرض لحقوق المواطن وهـذا التعرض مشروع متى كان فى اطـار القانون ووفقاً له، أما إذا خرج عنه كان انتهاكاً لحقوق الانسان ويشكل جريمة يعاقب عليها القانون.
ولا ينكر أحد الدور الكبير الذى يقوم به جهاز الشرطة لحفظ الأمن والعبء الثقيل الذى تحمله فى غير مجال الأمن المحترف كمشاكل رغيف الخبز وأنابيب البوتاجاز. كما يقدر الشعب كله التضحيات العظيمة التى قدمها رجال الشرطة فى مكافحة الارهاب وما سقـط من ضحاياهـم رحمهم الله ومن أصيب منهم شفاهـم الله، وستظل تضحيات الشرطة وساما على صدور رجالها وديناً فى عنق الشعب.
إلا أن الموازنة بين الأمن وحقوق الانسان مسأله تحتاج إلى مزيد من الحرفية الشرطية، وهذا ما دعا رئيس الجمهورية إلى التنبيه لضرورة الموازنة بينهما. وما دفع الرئيس لهذا التنبيه كثرة التجاوزات الصارخة التى وقعت من بعض رجال الشرطة خاصة فى قطاع الامناء. ولم ينتبه أحد إلى أهمية هذا التنبيه ولم يتم اتخاذ الإجراءات الفعالة الكفيلة بوقف تلك التجاوزات إلى أن وقعت كارثة قتل أمين شرطة لشاب من الدرب الأحمر إثر مشاجرة بينهما، فاستدعى رئيس الجمهورية وزير الداخلية صباح اجتماع مؤتمر الكوميسا فى شرم الشيخ ونبهه إلى ضرورة تلك التجاوزات وطالبه بالمحاسبة القانونية السريعة عن كل تجاوز واعـداد مشروع قانون أو قتراح تعديلات تشريعية تكفل ضبط الأداء الأمنى تعـرض على البرلمــان خـلال خمسة عشـر يومـاً (ويجب أن تحظر تــلك التشـريعات التصالح فى تلك التجاوزات لأن الأمر يتعلق بسمعة جهاز الأمن)، واجتمع وزير الداخلية فى نفس اليوم مع البعض من قيادات الداخلية وطالبهم بذلك وقال صراحة أن الداخلية ستشهد "تنقية ذاتية".
ولم يكن التجمهر الذى تم أمام مديرية أمن القاهرة يوم حادث الدرب الأحمر مجرد رد فعل على هذا الحادث، لكنه يعبر عن احتقان أصاب الشعب من كثرة التجاوزات الشرطية سواء من بعض الضباط أو بعض أمناء الشرطة ليس فى مجال حقوق الانسان فقط لكن بسبب تجاوزات استغلال النفوذ والرشوة والفساد وغيرها التى تقع من بعض المنحرفين، وهذه التجاوزات تنال من جهود وتضحيات رجال الشرطة.
ورغم أن الترهل أصاب العديد من مؤسسات الدولة وفى حاجة إلى علاج جذرى إلا أن الترهل إذا أصاب جهاز الشرطة كان نذير شؤم، وقد يؤدى إلى سقوط الدولة ذاتها، ومن هنا تكمن أهمية اصلاح جهاز الشرطة وتنقيته وتطويره ودعمه حتى لا تسقط الدولة.
وقد اثبتت التجاوزات الشرطية أن ما أصاب الجهاز بفعل القليل من أعضائه فى حاجة لوقفة حاسمة وإصلاح حقيقى ليعود ثوبه بالكامل ناصع البياض، وقد سمعنا منذ سنوات عديدة عن التصدى للتجاوزات ووقفها واصلاح حال الجهاز، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث بشكل ملموس للمواطن رغم وجود قطاع للتفتيش والرقابة، ورغم وجود قطاع لحقوق الانسان ورغم وجود ادارة للانضباط.
ان اصدار قوانين أو تعديلها لضبط الاداء الأمنى كما طلب رئيس الجمهورية أمر جيد وفعال، لكن هذا وحده ليس كافياً لتنقية جهاز الشرطة، فالأمر يقتضى اتخاذ الإجراءات التالية :
1- تنقية جهاز الشرطة كما قال وزير الداخلية والتخلص من كافة الفاسدين أياً كانت صورة الفساد وأياً كان موقع شاغله. ولن تستطيع الأجهزة الشرطية العادية كقطاع التفتيش والرقابة وادارة الانضباط وقطاع حقوق الانسان القيام بهذه المهمة فقد كان ذلك متاحاً أمامهم منذ سنوات ولم تتم تنقية الجهاز ولن تتمكن الداخلية من إجراء التنقية المطلوبة بأجهزة تشرف عليها نفس القيادات.
والأمل الوحيد لإجراء هذه التنقية وتقييم الأداء المستمر لرجال الشرطة هو جهاز الأمن الوطن الذى لايهاب أحدا ولا يجامل والذى لدية آلية ذاتية لتقييم أعضائه ويبعد دورياً كل من يخطئ (مهما كانت درجة الخطأ)، وهى آلية أكاد أقول أنها الأكثر فاعلية ودقة فى مصر ولا تعرف المجاملة.
وذات يوم علمت بنقل صديق لى يعمل مدير إدارة عامة بجهاز أمن الدولة (الأمن الوطنى حالياً) إلى الأمن العام، وكنت أعلم أن هذا المدير صديق لرئيس الجهاز فتحدثت إلى الأخير فأجابنى أن المدير صديقه بالفعل ولكن لديه ثلاثة أخطاء ولذا لم يبقه فى الجهاز.
لكن مشكلة هذا الجهاز فى خصوص تنقية جهاز الشرطة والتقييم الدورى لاعضائه أنه أحد أجهزة وزارة الداخلية ويعمل فى اطار توجيهاتها، وتلك التبعية ستحد دون شك من قدرته على ابداء رأيه صراحة. وجهاز الأمن الوطن جهاز معلومات داخلية شأنه فى ذلك شأن المخابرات العامة فى بعض اختصاصاتها، ولذا أقترح نقل تبعيته لرئيس الجمهورية مثل المخابرات العامة ليؤدى دوره فى شأن تنقية جهاز الشرطة وتقييم الأداء الشرطى بفاعلية أكثر وحرية تامة.
ويجب أن يقوم جهاز الأمن الوطنى بمهمه تقييم الأداء الشرطى بعامة، وتقييم أداء ضباط وأمناء وأفـراد الشرطة بشكل دورى، والكشف عن أى انحرافات أو تجاوزات سواء فيما يتعلق بالأداء أو باحترام حقوق الانسان، واقتراح الحلول الاصلاحية.
2- دراسة وفحص أحوال كافة رجال الشرطة وإنصاف المظلوم منهم، والعمل على إصلاح أحوالهم المادية بعامة، وزيادة مكافآت الجيدين منهم.
3- إمداد الشرطة بكافة الوسائل الأمنية الحديثة التى تعينها على أداء مهماتها بشكل أفضل.
4- التوسع والتعمق فى تدريس مدونات السلوك الشرطى وقواعد حقوق الانسان فى الاكاديميات الشرطية، والتدريب العملى المستمر للضباط والأفراد على تلك المدونات والقواعد، وجعل احترامها والالتزام بها من أسس تقييم الأداء.
5- عدم السماح بوجود أى ائتلافات أو تجمعات بالشرطة سواء للضباط أو الأمناء، وكفانا من حدث منهم من انتهاكات فى جهاز يجب أن يكون مثالاً للانضباط، ويجب أن تقتصر أندية الضباط والأمناء على الأنشطة الاجتماعية فقط.
6- البحث عن حلول بديلة لنظام أمناء الشرطة واحداث نظام أفضل فعال أمنياً وجيد فى التعامل مع المواطنين وفى الحفاظ على حقوق الانسان.
7- سرعة التصدى للتجاوزات واحتواء آثارها، وسرعة إجراءات جمع الاستدلالات والتحقيق والمحاكمة والإجراءات التأديبية، وسرعة تنفيذ الأحكام الجنائية والجزاءات التأديبية على الفاسدين والمتجاوزين، واعلان كل ذلك فى حينه للمواطنين.
وإذا كان فى جهاز الشرطة البعض من الضباط والأمناء الفاسدين والمتجاوزين، فإن هناك الآلاف المؤلفة منهم من الشرفاء المخلصين.