أشرف كاره
تلوث بلا حدود
استشرت بالسنوات الأخيرة ظاهرة التلوث بأنواعه على الساحة المصرية وكأنها ليس لها رادع ولا مراقب، الأمر الذي أخذ في سحب مصر إلى الهاوية بين نظائرها من الأمم! فأين هي (قاهرة) الثلاثينيات من القرن الماضى التي كانت تعد إحدى أجمل مدن العالم.. لقد كانت الأشهر في استقطابها للسياحة العالمية بخاصة من كافة الدول العربية والآسيوية وكذا بغرض الدراسة بها.. ولم يسمع في وقتها بأى عاصمة عالمية أخرى جاذبة لهواة الفن والجمال (بخلاف القاهرة) سوى بـ"فيينا" (العاصمة النمساوية)، أما الآن فحدث ولا حرج.
إن التلوث (الصارخ) الذي نعانى منه لا ينحصر فقط بالتلوث الجوى– وهو الأهم تأثيراً على الصحة– بل تعداه لكافة صور ومظاهر التلوث المعروفة (وربما غير المعروفة).. فقد بلغت معدلات التلوث الجوى في مصر، بخاصة بعاصمتها القاهرة، أحد أعلى المعدلات العالمية، فها هي عوادم السيارات والمركبات المتهالكة– وعلى رأسها الحكومية والنقل العام- تنفث علينا يومياً عشرات الأطنان من العوادم والغازات السامة ولا رادع لها بوقف تسييرها أو تجديد محركاتها كما تعمل حكومات العالم، بل تتغاضى الجهات الرقابية المختصة (خاصة من بعض أصحاب النفوس الضعيفة) مقابل بضع دراهم كما يحدث ببعض إدارات المرور المسئولة عن تجديد تراخيص السيارات بغض البصر عن عوادم تلك السيارات التي يجب الموافقة على نسب عوادمها الصادرة من خلال الأجهزة المختصة لقياسها؟! ليس هذا فحسب بل نرى أن القوانين المحددة لتصنيع المركبات وتسيير الجديدة منها لا تهتم بمواكبة ما وصل إليه العالم من حولنا في محاربة التلوث بهذا القطاع، ففى مصر نرى أن المحركات العاملة خاصة لمركبات نقل الركاب وسيارات النقل لا تتعدى (يورو 2) بالمقارنة بمقاييس مستويات العادم والإزعاج الصوتى المطبقة بالقارة الأوروبية (الأعلى عالمياً في الاهتمام بمحاربة التلوث الجوى) التي بلغت (يورو 6) مع بدايات 2014 لكافة دول القارة الأوروبية؟ وبالوقت نفسه الذي تعانى فيه المركبات الحديثة المستوردة لمصر (بخاصة السيارات الخاصة) التي تتميز بمحركاتها البيئية الحديثة من تدنى مستويات الوقود المتاحة بخاصة "وقود الديزل"! فأين الاهتمام بصحة المواطن المصري يا وزارة الصحة والبيئة والداخلية والصناعة (بحكم المسؤولية المشتركة)؟
على الجانب الآخر (تتميز) مصر بخاصة المدن الكبرى بها بنسبة متفوقة من التلوث السمعى، خاصة مع ترك العنان لآلات التنبيه بالإزعاج دون رادع، وذلك إلى جانب أصوات المحركات المتهالكة التي أشرنا إلى أنها لم تتعد الـ(يورو 2) وهو ما أصبح في ذكرى الماضى بالنسبة للدول المتحضرة، وبالإضافة إلى ذلك بطبيعة الحال أصوات مكبرات الصوت العاملة دون تقنين أو رقابة.. فهل من مراقب؟
ليس ذلك فحسب، فالتلوث البصرى أصبح هو الآخر من المظاهر الخانقة بمصر، بدءاً بإهمال وعدم نظافة رموز السياحة المصرية من آثار فرعونية ومزارات سياحية وميادين تاريخية وكذا شواطئ ساحلية.. ووصولاً إلى أكوام القمامة المنتشرة ليس فقط بين الأحياء الفقيرة والشعبية، بل وأيضا بالأحياء الراقية وما يترتب عليها من نتائج غير محمودة من أمراض وروائح كريهة.. وكذلك بناء العشوائيات التي أصبحت عنوان العصر الحديث في مصر وهي ما تمثل نوعاً آخر من التلوث البصرى المرفوض.. فهل من محاسب؟
أما الطامة الكبرى التي أخذت في الفوران البركانى– خاصة بعد ثورتى يناير 2011 ويونيو 2013– فتتمثل بالتلوث الأخلاقى، وهو الأمر الذي أصبح أحد الرموز المصرية الحديثة بالعديد من أفراد شعبها، ولتتحول الصفة الشهيرة لشعب مصر بأنه شعب ضاحك وخفيف الظل.. إلى شعب (قليل الأدب) بشكل عام– إلا من لا يزال يحافظ على تعاليمه الدينية وقيمه الأخلاقية الراقية والمحافظة التي نشأ وتربى عليها– فهل من ناصح؟
إن قضية التلوث في مصر يا سادة وبكافة صوره أصبحت تحتاج لوقفة صارمة من كل الأطراف وأولها (البدء بالنفس)، فلا يمكن أن تستقيم أحوال الشعوب إلا إذا أرادت التحضر والتقدم من داخلها وبإرادتها الشخصية وليس بالفرض والقوة، أما القانون فيأتى دوره بالمرحلة التالية للوقوف على التطبيق والمحاسبة للمخطئ.. فهل من مجيب؟