السوق العربية المشتركة | بيكيتى ورأس المال فى القرن الواحد والعشرين

السوق العربية المشتركة

الإثنين 18 أغسطس 2025 - 16:57
رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
نائب رئيس مجلس الإدارة
م. حاتم الجوهري
بيكيتى ورأس المال فى القرن الواحد والعشرين

بيكيتى ورأس المال فى القرن الواحد والعشرين

ليس هناك كتاب اقتصادى ربما أثار نقاشا وجدلا مثلما يثيره هذه الأيام كتاب «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين»، الذى نشره بالفرنسية العام الماضى الباحث الاقتصادى الفرنسى توماس بيكيتى، والذى يتصدر المبيعات فى أوروبا وأميركا، وقد نفدت فى الأخيرة طبعته الأولى بسرعة نسخته الإنجليزية، التى صدرت فى مارس الماضى، فى 600 صفحة، ما أدى بدار جامعة هارفارد للنشر إلى المسارعة فى إصدار طبعات أخرى.



الكتاب يتمحور أساسا حول فكرة عدم المساواة فى توزيع الثروة، وتسارع احتكارها بمرور الزمن بين أى أقلية تزداد أقلية بمرور الزمن! يبحث بيكيتى بالأرقام هذا الموضوع وبمعطيات تغطى 300 سنة فى 20 دولة متقدمة، ويحذر فيه الباحث من مخاطر سياسية واقتصادية، من تعاظم الهوة الطبقية، والتآكل الذى تتعرض له الطبقة المتوسطة، الفاصلة بين الأكثر ثراءً والأكثر فقرًا. ويذهب الاقتصادى الفرنسى إلى القول إنه إذا استمر نفس إيقاع نمو ثروات الأكثر ثراء فى العالم فإنهم خلال الـ50 سنة المقبلة سيسيطرون ليس على 90 فى المائة فقط من ثروات العالم، إنما على 100 فى المائة! ويثير هذا الطرح جدلا كبيرا مثلما تثيره دعوة الباحث إلى فرض ضريبة عالمية على الأثرياء، الذين يرى أنهم مستفيدون من التساهل الضريبى للحكومات معهم.

الكتاب يستعرض بالارقام والجداول تاريخ الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر. والنقطة المركزية فيه ان نمو عائدات رأس المال اسرع من النمو الاقتصادى العام، والنتيجة زيادة ثراء الاثرياء مع اتساع للفجوات على نحو آلى. الاستثناء الوحيد فى تلك الدراسة المقارنة لــ300 سنة هو السنوات الــ30 اللاحقة للحرب العالمية الثانية التى ضيقت الفجوات نسبياً بين شرائح مجتمعات الدول الكبرى الصناعية. اما الآن، بحسب بيكيتى، فالفوارق تكبر لنعود تقريبا إلى ما يشبه مراحل الاقطاع قبل عدة قرون.

الدراسة الاحصائية توجه لطمة للنظرية الليبرالية القائمة على ان تدفق المال ليس باتجاه واحد بل يشمل متفرعات، كما الماء المتسرب من الانهر فى جداول ذات اليمين وذات اليسار، بمعنى آخر، كانت النظرية تؤكد ان ثروات الاغنياء تفيد الفقراء ايضا، مع امثلة كالتى عشنا عليها طويلا ونكررها بذكر نموذج «الحلم الاميركى»، حيث الكفاءة والاجتهاد والعمل بجد وتنافسية.. تثمر مالا لا محالة.

عند ظهور الكتاب فى فرنسا، تعامل معه كثيرون على انه ماركسية تريد تجديد نفسها. أُهمل الكتاب من السلطات السياسية والاندية الفكرية والجامعية، ولم يعطه الاعلام اهتماماً كافياً. والانكى ان اليساريين رأوا فيه تبريرا للنظام الرأسمالى، لانه لم يتناول قضية الصراع الطبقى لا من قريب او بعيد. كما لم يعبأ بالكتاب الرئيس الفرنسى فرنسوا هولاند الآتى من اليسار ايضا، لانه اليوم يحاول تخفيف العبء الضريبى لتستطيع الشركات خلق فرص عمل فى بلد متخم بالبطالة. علما بان بيكيتى عمل مستشاراً مع سيغولين روايال فى 2007 عندما ترشحت للانتخابات الرئاسية، كما عمل مستشاراً لرئيسة الحزب الاشتراكى مارتين اوبرى.

وبقدر ما سجل الكتاب إشادات من بينها إشادات لاقتصاديين مرموقين مثل الأميركى الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد بول كروغمان، بقدر ما أثار انتقادات واسعة خاصة من المدافعين على «رأسمالية الاقتصاد»، والذين ذهب بعضهم إلى اتهامه بأنه شيوعى ماركسى وتشبيهه بكارل ماركس ومقارنة كتابه بكتاب ماركس «الرأسمال»، الذى أنجزه فى 1867. واللافت أن الاقتصادى الفرنسى صرح ردا على هذه الاتهامات، بأنه «فى الواقع لم يتسن له قراءة رأسمال ماركس!».

وقد أخذ الجدل حول كتاب بيكيتى بعدا آخر خلال الأيام الماضية، واحتل النقاش فى الكثير من وسائل الإعلام الغربية خاصة، عندما «اتهمته» صحيفة «الفاينانشيال تايمز» الاقتصادية البريطانية بأن المعطيات الرقمية (التى تمتد على نحو 300 سنة فى الدول الغربية)، والتى بنى عليها الباحث الفرنسى كتابه، فيها نقاش، إن لم تكن خاطئة، وبالتالى فإن الاستنتاجات التى توصل إليها ليست صحيحة بالضرورة.

وقد رد بيكيتى على الصحيفة الاقتصادية الشهيرة بالقول إنه حتى إن لم تكن المعطيات الرقمية، التى بنى عليها كتابه، بحاجة إلى تدقيق، فإن الاستنتاج الذى خلص إليه يبقى صحيحا، وهو خطورة عدم المساواة فى توزيع الثروة وبكل تبعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وهى الخطورة، التى شدد عليها الأميركى الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد بول كروغمان، والذى أشار إلى أن كتاب بيكيتى «سيدفع إلى إعادة النظر فى كيفية التفكير فى المجتمع والطريقة التى نمارس بها الاقتصاد».

لقد عمل بيكيتى 15 سنة على تأليف الكتاب الممتد على 950 صفحة، وما الاحتفال العالمى به إلا تتويج لهذا الجهد الجبار.

تقول «نوفل اوبزرفاتور» ان «الاشتراكيين الفرنسيين غير مقتنعين بما جاء فى الكتاب حول فرض ضريبة عالمية (واحدة عابرة للقارات) تصاعدية على رأس المال، والسبب بسيط مفاده أن بيكيتى- كما الكثير من الاكاديميين- منقطع عن أرض الواقع».

والنقاش هناك يتمحور حول عدة أرقام مثيرة، مثل ان نسبة ٪1 من السكان حظيت فى 2012 بما نسبته %22.5 من المداخيل الأميركية الكلية، وهذه النسبة غير مسبوقة منذ 1928.

أكثر من ذلك، إذ يؤكد بيكيتى ان نسبة %0.1 من السكان تحظى بـ%10 من الدخل القومى، فيما كانت نسبة السكان تلك %2 قبل 20 سنة. وتلك النسبة القليلة من الأغنياء تربح 100 مرة مضاعفة مقارنة بالمتوسط العام للربح المتعارف عليه.

لكن بعض الليبراليين المستقبلين للكتاب بترحاب لا يوافقونه بعض التوصيات، لا سيما الضريبية منها. لذا خصصت فايننشيال تايمز نقداً لاذعاً مشككة فى الأرقام وغير مقتنعة بالفجوات المذكورة فى الكتاب بين الأغنياء والفقراء. ودافعت الصحيفة الاقتصادية الأشهر فى العالم عن النظرية الليبرالية مجدداً لتؤكد ان آليات «السوق الحر» تضيق الفجوات ولا توسعها. بيكيتى يرد: هذا مضحك: فالإحصاءات متوافرة على النت وللجميع ان يتحقق منها.

أما بيكيتى المتواضع فتراه متنقلاً من عاصمة إلى أخرى مع أدوات خطاب واقناع مختلفة بين هنا وهناك، فهو مقتنع ان النجاح الأميركى للكتاب متعلق بالأزمة وتداعياتها وبصلة ما بحركة «احتلوا وول ستريت». اما فى المانيا فيتحدث الكاتب عن سرعة ثراء الأثرياء مقارنة بسرعة استدانة الدول، مما يدغدغ انجيلا ميركل الحريصة على لجم الدين العام الأوروبى والداعية إلى التقشف العام.

وفى أميركا اللاتينية تنتشر أفكار بيكيتى أيضاً، مما دفع وزير مالية تشيلى إلى زيارة الكاتب فى فرنسا، كما ان رئيسة تشيلى قالت انها تعدل النظام الضريبى وفقاً لبعض استنتاجات الكتاب ليرتفع الاستقطاع من %18 من الناتج إلى %21.

وبيكيتى الذى زار الصين حيث القلق المتعاظم من اتساع فجوات اللاعدالة بسرعة قياسية. وفى بكين جهد أكاديمى هائل مطلوب من السلطات الرسمية لدراسة هذه الظاهرة المقلقة. يقول: لا يستطيع الصينيون الاكتفاء بمحاربة الفساد بين صفوف أعضاء الحزب الشيوعى الحاكم فقط، انهم مجبرون عاجلاً أم آجلاً على فرض ضرائب متصاعدة.

هل هو مهووس ضرائب؟ يرد ليؤكد انه ليس مع خنق الاقتصاد بالضرائب. لكل بلد حاجة. ففى فرنسا حاجة ماسة لعصرنة التعليم واشراك القطاع الخاص فى ذلك. ويضرب مثلاً كيف ان مجموعة خاصة ساهمت بمال رفع مستوى مدرسة الاقتصاد فى باريس التى تعد بين الأفضل فى اختصاصها عالمياً.. وهذا المديح للقطاع الخاص يعنى ان بيكيتى براجماتى أيضاً.. وهنا بيت القصيد.