الأخلاق فوق المال
أنعم الله على كثير من بلاد العرب في هذا العصر بخيرات وافرة وثروات عظيمة، و حالة غير مسبوقة من الثراء والرفاهية، فانتشرت مظاهر النعمة وتبدّلت أنماط الحياة، واتسع الفارق بين الطبقات، حتى أصبح المال والترف جزءاً من الهوية الاجتماعية والسياسية.
- غير أن التاريخ البشري، في مساره الطويل، يبيّن أن هذه المظاهر ليست بالضرورة دليلاً على القوة أو الاستقرار، بل قد تكون إشارة مبكرة إلى بداية الانهيار عندما تغيب القيم التي تحفظ توازن المجتمع .
يقول القرآن الكريم:
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (الإسراء: 16)
لقد تكرّرت هذه السنّة في التاريخ مراراً. فممالك كثيرة قامت على القوة والإنتاج ثم انهارت حين طغت الرفاهية على روحها. كانت الأندلس مثالاً حيًّا لذلك؛ فقد بلغت ذروة الحضارة والعلم والفن، لكنها ما لبثت أن تفرّقت دويلاتها، وغرق ملوكها في الترف واللهو، فانهارت من الداخل قبل أن تُهزم من الخارج. تحوّل القصور إلى رموز للبذخ، والعلم إلى ترف فكري بلا روح إصلاح، حتى فقدت الأمة وحدتها وانهارت حضارتها التي أبهرها العالم.
الترف لا يهدم المجتمع وحده، لكنه يزرع فيه بذور الأنانية والتفاوت، فيتعمّق الانقسام بين قلة مترفة وأكثرية مسحوقة. ومع غياب الإصلاح، يتحول الغنى إلى غطاء للظلم، والسلطة إلى أداة لحماية المصالح الخاصة. عندئذٍ يصبح الناس شهوداً على الفساد بلا قدرة على التغيير، فيتحقّق قول القرآن: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود: 117)
وفي الإنجيل ورد تحذير مماثل من سيطرة المال على الإنسان، إذ قال المسيح عليه السلام: «لا تقدرون أن تخدموا الله والمال.» (متى 6: 24)
كما جاء في رسالة بولس: «الذين يريدون أن يكونوا أغنياء يسقطون في تجربة وفخ، وفي شهوات كثيرة مضرة تُغرق الناس في العطب والهلاك.» (تيموثاوس الأولى 6: 9)
وفي التوراة ورد تحذير صريح من أن النعمة المفرطة قد تُنسي الإنسان خالقه وقيمه، إذ جاء في سفر التثنية: «لئلا تأكل وتشبع وتبني بيوتًا جميلة وتسكن، وتكثر لك الفضة والذهب، فيرتفع قلبك وتنسى الرب إلهك.» (التثنية 8: 12–14)
هذه النصوص، على اختلاف أزمانها ولغاتها، تلتقي على معنى واحد: :- إن بقاء الأمم لا يتحقق بالثروة وحدها، بل بالعدل والضمير العام، وبقدرة الناس على مقاومة الفساد في كل أشكاله. فالمجتمع الذي يرفع شأن المال فوق الأخلاق، ويقدّم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، قد يبدو قوياً في ظاهره، لكنه من الداخل مهدد بالانهيار. ولعل أعظم رسالة نستخلصها من هذه السنن أن الرفاهية الحقيقية ليست في وفرة المال، بل في صلاح الإنسان وعدالته واستقامته، لأن الأمم لا تُهدم من الخارج بقدر ما تنهار من داخلها حين يفسد المترفون ويصمت الناس.




















