السوق العربية المشتركة | الأزمات المالية العالمية وآثارها الاقتصادية

السوق العربية المشتركة

الإثنين 18 أغسطس 2025 - 16:33
رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
نائب رئيس مجلس الإدارة
م. حاتم الجوهري
الأزمات المالية العالمية وآثارها الاقتصادية

الأزمات المالية العالمية وآثارها الاقتصادية

تعانى الاقتصادات الرئيسية ذات الدخل المرتفع، الولايات المتحدة الأمريكية ومنطقة اليورو واليابان وبريطانيا، من أعراض خلل مزمن فى الطلب. وبدقة أكبر، فشلت القطاعات الخاصة فيها فى الإنفاق بما يكفى لأن يقترب الإنتاج من إمكاناته الفعلية دون الوقوع تحت وطأة اغراءات السياسات النقدية البالغة القوة والعجز الكبير فى الميزانية أو كلاهما معا. وقد ابتليت اليابان بأعراض نقص الطلب منذ أوائل تسعينيات القرن الماضى فيما أصابت باقى الاقتصادات منذ 2008. ما الذى يجب عمله حيال هذا الأمر؟ للإجابة عن هذا السؤال، يجب فهم العلة والداء أولا.



الأزمات هى كالسكتة القلبية التى تصيب النظام المالى، وتكون ذات آثار مدمرة محتملة على الاقتصاد. دور الطبيب الاقتصادى هو إبقاء المريض على قيد الحياة: منع انهيار النظام المالى والحفاظ على استمرار الطلب. القلق بشأن أسلوب حياة المريض لا يكون أثناء إصابته بالأزمة القلبية فما يهم هو الإبقاء عليه حيا.

ومثل النوبات القلبية، تترك الأزمات المالية آثارا طويلة الأمد. أحد أسباب ذلك يكمن فى الضرر الذى أصاب القطاع المالى نفسه. وسبب آخر يتمثل فى فقدان الثقة بالمستقبل. الا أن هناك سببا آخر يجعل من الدين الذى يتراكم فى الفترة التى تسبق الأزمة غير محتمل. وما يحدث حينها هو «ركود فى الميزانية»، وهى الفترة التى يكون فيها تركيز المدين منصبا على سداد الديون. سياسة ما بعد الأزمة يجب أن تعوض أو تسهل عملية تخفيض الديون التى يقوم بها القطاع الخاص. السياسات المالية والنقدية الداعمة يمكن أن تساعد فى الأمرين. ومن دون وجود هذه السياسات سيحدث على الأرجح انخفاضات حادة كما حصل فى الدول الأعضاء فى منطقة اليورو التى ضربتها الأزمة.

إعادة هيكلة الديون عملية متممة ومكملة لتخفيض الديون. الكثير من الاقتصادات أوصت بإعادة الهيكلة هذه كجزء أساسى من الحل. فى قطاع الأسر على الأقل، قامت الولايات المتحدة بمهمة أفضل بكثير مما قامت به منطقة اليورو.

لكن تنظيم عملية إعادة هيكلة الديون صعبة للغاية طالما رفض المقترضون الاعتراف بالهزيمة. وهو أمر ينطبق على القطاع الخاص وينطبق بصورة أكبر على القطاع العام. وهذا هو أحد أسباب استمرار عبء تراكم الديون لفترة طويلة.

بيد أن هناك احتمالات أكثر ازعاجا من عبء تراكم الديون. فى كتاب «التحولات والصدمات»، أشير إلى أن عددا من التحولات فى الاقتصاد العالمى خلقت طلبا ضعيفا بشكل مزمن فى غياب طفرات الائتمان. ومن بين تلك التحولات فائض المدخرات فى الاقتصادات الناشئة والتحولات فى توزيع الدخل والشيخوخة والتراجع الحاد فى النزعة للاستثمار فى البلدان ذات الدخل المرتفع. ويكمن خلف تلك التحولات، من بين أمور أخرى، العولمة والابتكارات التكنولوجية والدور المتنامى للقطاع المالى. ليس كافيا الاكتفاء بتنظيف الفوضى التى حصلت فى أعقاب انهيار طفرة الدين. بل يجب على صانعى السياسات أن يقضوا على مسألة الاعتماد على الائتمان الذى لا تملك الدولة أو المؤسسة قدرة على سداده والإيفاء بالتزاماته.

ومن دون القيام بذلك، فحتى عملية تنظيف جذرية لن تنجح فى تنشيط الطلب. صحيح أنه إذا كان البلد صغيرا، قد يكون قادرا على استيراد الطلب المفقود من خلال الحساب الخارجى. لكن عندما تكون هناك أجزاء كبيرة جدا من الاقتصاد العالمى مصابة بالعلة نفسها، يكون هناك حاجة لحلول بديلة. وهناك ثلاثة بدائل: التعايش مع ضعف الطلب المزمن، أو تشغيل سياسات شرسة فيما يتعلق بالطلب (كما فعلت اليابان) أو إصلاح الضعف الهيكلى الأساسى فى الطلب.

ويمكن أن تساعد السياسة النقدية المفرطة فى شدتها من خلال معدلات أسعار فائدة أقل من الصفر. والبديل عن ذلك يتمثل فى العجز المالى. لكن ذلك يهدد بوضع الدين على مسار ارتفاع دائم. وهناك بديل غير تقليدى آخر يتمثل فى التمويل النقدى الصريح للعجز المالى ويعنى ذلك تأميم عرض النقد وطباعة النقود التى تخصص وتوجه اليوم للبنوك الخاصة غير المسئولة. وهذه وسيلة أكثر مباشرة (وربما أكثر فعالية) لاستخدام صلاحية البنك المركزى فى التوسع فى عرض النقد وطباعة النقود لزيادة الطلب بدلا من توظيفها بصورة غير مباشرة، من خلال التلاعب فى أسعار الأصول. ويبدو تسييل العجز منطقيا بشكل خاص فى اليابان.

البديل هو فى التصدى ومعالجة مصادر الضعف الهيكلى فى الطلب. إحدى السياسات التى يمكن تبنيها تكمن فى إعادة توزيع الدخل من المدخرين إلى المنفقين. وأخرى تتمثل فى تشجيع الإنفاق. ولهذا السبب كانت زيادة ضريبة الاستهلاك فى اليابان عبارة عن تصور خاطئ. إذ ينبغى على اليابان أن تفرض ضرائب على الادخار بدلا من الاستهلاك. وفى هذا انتهاك للتحيز الدائم تجاه الادخار باعتباره قيمة اقتصادية. لكن فى عالم يعانى من أعراض نقص الطلب، لا يكون الوضع كذلك. ولهذا يجب عدم التشجيع على الإدخار غير المثمر.

وراء كل العلل التى أصابت العالم فى مرحلة ما بعد الأزمة واستمرار ضعف الطلب، ربما يكمن ضعف هيكلى فى المعروض. والحل هو فى التشجيع على العمل والاستثمار والابتكار. بيد أن السياسات التى صممت لتعزيز العرض يجب ألا تضعف فى الوقت نفسه الطلب. وهذه واحدة من الصعوبات التى تأتى مع التوصيات النمطية لإصلاح سوق العمل، والتى تستلزم تخفيض الأجور لنسبة كبيرة من القوة العاملة، وجعل عملية الفصل والتوظيف أكثر سهولة بالنسبة لصاحب العمل. وهو ما من شأنه على الأرجح أن يخفض الاستهلاك على الأقل فى المدى المتوسط، كما تظهر تجربة ألمانيا فى العقد الأول من هذه الألفية. الإصلاحات يجب أن تعزز الطلب. ولهذا يجب أن تستقر منطقة اليورو على حزمة حلول متوازنة بدلا من الاعتماد على إصلاحات هيكلية مغالى فيها.

تركت الأزمة إرثا مخيفا ومحبطا. وكان تصدى منطقة اليورو لهذه الأزمة أسوأ بكثير مما فعلت، الولايات المتحدة. لكن أصول الأزمة موجودة فى الضعف الهيكلى على المدى الأبعد. وينبغى على السياسات أن تعالج هذا القصور والخلل أيضا حتى لا يكون الخروج من الأزمة هو بداية الرحلة نحو الأزمة التالية. ومن المحتمل أن تكون الحلول غير تقليدية، لكن الوضع الاقتصادى الراهن هو أيضا غير تقليدى. الأمراض النادرة تحتاج إلى علاجات غير اعتيادية، لهذا ابحثوا عنها.