العميد محمد نبيل
أسفار الحج (١).. سلام المصريين أمام مقامه الجليل
وكأن الشوق عبادة لم أدرك عنوانها وإن اجتهدت وأخلصت فى أدائها حتى اعتدت مسالك دروبها ولهًا وعشقًا، نعم أشتاق وعندى لوعة واشتياق، منذ أن غادر جسدى المدينة فى رحلتى السابقة -منذ سنوات- وما زالت الروح عالقة بتراب مقامه الجليل صلى الله عليه وسلم، وإلى أن شاء الله لى كرمًا بعودة تقر العين وتتكحل برؤية باب حضرة النبى، وما أن استضافت الروح جسدها الغائب حتى دبت الأنفاس فرحًا ودقت النبضات طربًا، قال لى العارفون ممن سبقونى: ستنسى كل شىء.. الأهل والأحباب والأصدقاء، ونصحونى بتدوين الأدعية وحسن صياغتها، فتلك زيارة ما قبل الحج لها من الجلال ما ترتعد له أوصال المرء منا، وتتملكك حالة أو حزمة من الحالات المتداخلة والمتشابكة، وربما المتناقضة، فتبتسم خطوط الوجه وتنسال دموع الوجد حتى تعتاد مساراتها على كلثومين شديدا الاحمرار تعتليهما مقلتان دامعتان على الدوام، وقلب يرجف خوفًا من الرفض ويرقص من نشوة القبول، ونفس هائجة فى بحر لجى من أمواج مضطربة ما بين الرجاء واليأس، لا تعلم شيئًا مما كنت تعلمه من قبل حتى عن ذاتك، حاذر (!)… إنها لحظات مخاض جديد، تعيشها أنت، لتولد ثانية من جديد، مَن قال آنفًا: رب ارجعون لعلى أعمل صالحًا فيما تركت،… وكان الجواب السرمدى (كلا) ولكنك الآن تولد من جديد، وها قد عُدت من جديد، فماذا ستفعل؟ وهل سيكون فعلك صالحًا فيما هو آت؟! نعم نسيت كل الأشياء المتزاحمة والمتحجرة أمام بوابة ذاكرتى، وتذكرت أمرين؛ وكان الأول: مع حالة الخوف والمهابة أمام قائد دان له العالم زمانًا ومكانًا على تعاقبهما إلى الآن ليس بالسلاح والترهيب والتخويف والتكفير، إنما بالكلمة.. الكلمة التى تفرق ما بين نبى وبغى، تذكرت قصيدة عبدالرحمن الشرقاوى فى رائعته (الحسين ثائرًا)، وعلمت أن الكلمة بحق؛ شرف الرجل… وصدق الله إذ يقول: "ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك".. نعم اجتمعوا على دربه، وأحبه واتبعه كل هؤلاء الألسن المختلفة، والوجوه ذات الألوان المتغايرة، والأعراق والأجناس القريبة والبعيدة، جاءوا من كل فج عميق بالحب لا بالكراهية، وبالاقتناع لا بالانصياع. وكان الأمر الثانى: هو أننى انتابتنى حالة الخجل التى سبقنى فيها أحد أساتذتى الذى لم أره وجهًا لوجه، إلا أنه علمنى من خلال كتبه فى مطلع الثمانينيات، وهو العظيم مصطفى محمود عندما جسد حالة الكسوف والخجل فى مقالته (أمام قبر الرسول) بكتاب (الغد المشتعل)، وكان يتأسى على حالة الاتباع الشكلى التى انتابت البعض وربما الكثير ممن رآهم الراحل مصطفى محمود، فقال: ".. وقفت أمام قبر الرسول الكريم مُنكس الرأس حياءً و قد هَرَبَت مِني الكلمات.. كُلّى حياء منك يا رسول الله.. أحسنت التبليغ عن ربك وما أحسنّا.. وأحسنت النصح لأمتِكَ وما نصحنا.. وحملت كتابك بقوة وما حملنا.. وانتصرت للحق وما انتصرنا.. واكتفى بعضنا بلحيته، وقال هي سنَّتك.. وقصّر البعض جلبابه، وقال هو أمرك.. واستسهلوا السهل، وخانوا الأهل، واكتفوا من الدين بقشرته، ومن الجهاد بسيرته.. وقعدوا وقعدنا معهم.. ورَكِب أكتافنا الدون والسُّوقة ورِعاع الناس وشذاذ الآفاق، وسفحوا دماءنا واستباحوا أرضنا وشتتوا شملنا... ادع لنا ألا يطول علينا الليل وألا يدركنا الويل، وادع لنا نحن جندك فى مصر الذين قلت عنّا: إننا خير أجناد الأرض، وإننا فى رباط إلى أن تقوم الساعة.. أن نكون عند حسن ظنِّك.. وأن نكون مصداقًا لنبوءتك وآية لرسالتك".
تذكرت درس الراحل مصطفى محمود أمام مُعلم الدنيا والآخرة، فوجدتنى أدعو بدعاء واحد فى حضرته عليه الصلاة والسلام، سيدى: لحضرتك السلام من والدى، وكل أهلى، وأحبابى وجيرانى، وأصدقائى وكل مَن أمننى بأمانة السلام أمام مقامك الجليل، وحتى خنق اللسان عبرات ساقتها أمهات شهداء الوطن اللائى قد بعثن معى بسلام أم الشهيد لحضرته، وكثيرات حملننى أمانة السلام لحضرته شفاءً لأولادهن وسترًا لبناتهن، وفى كثير كان السر بين مَن حملنى الأمانة وبين صاحب المقام، حتى وجدتنى أبعث بالسلام لحضرته عن كل المصريين، وعن تراب مصر، وعندما نطق لسانى بتراب مصر بكيت، ثم بكيت حتى شفيت من كل سقمى!
شفى الله أسقام المصريين ومصرنا بالسلام على حضرة صاحب المقام (محمد).