صنْ النفس واحملها على ما يزينُها
كان الأجداد والآباء في مثل هذه الأيام، حيث يتم توديع أشهر الصيف في أماكن المقيض ليعودوا إلى مساكنهم الشتوية استعدادًا للقادم من الخير في أشهر الشتاء، وقد أخذوا من الزاد ما يعينهم على تقلبات الأجواء خصوصًا وأنهم كانوا يعتمدون على صيد البحر من الأسماك وما تجود به الزراعة الموسمية من خيرات، فقد فطنوا إلى تجفيف الأسماك وتمليحها فيما يسمى بلهجتنا الخليجية «المالح» وفي بعض القرى يطلقون عليه «الأحلى».
كما يتم تخزين التمور، والاستفادة من «الدبس» الذي هو يعتبر «عسل التمر» واستخداماته المتعددة كالرز المحمر وأنواع الحلويات الشعبية المنزلية.
العربي يستبشر بالمطر خصوصًا «الوسمي» الذي يبدأ مبكرًا فيروي البر، ويكون هناك مجال للنباتات البرية المتعددة، وكذلك «الفقع»، «الكمأة» التي هي من الثمار البرية التي يستبشر بها الناس ويفرحوا بالبحث عنها في الأماكن البرية التي لا تطأها المركبات وتكون مهيأة للنمو الطبيعي لهذه النبتة المرغوبة. وبدائل الكمأة من المعلبات باتت تملأ رفوف البرادات والسوبر ماركت Super Market.
كانت العبارة التي يكررها الأوائل فتدخل السرور إلى النفس ويطمئن لها الخاطر تقول: «كل وقت ما يستحي من وقته» فقد نتذمر من شدة الحرارة والرطوبة في الصيف، ونعتمد على المكيفات اعتمادًا كليًا وننسى أحيانًا أننا نمر بنفس الظروف سنويًا وإن كانت الحرارة أحيانًا تصل إلى ذروتها.. وعندما يأتي الشتاء أيضًا نتذمر من البرودة وشدة المطر وتقيد حركتنا.. غير أننا في ظل جائحة كورونا كوفيد-19 بتنا أكثر تذمرًا صيفًا وشتاء جنبنا الله هذه الجائحة وأمدنا بعونه وتوفيقه سبحانه وتعالى وأزاح الغمة وحفظنا من كل سوء ومكروه.
عندما يتبنى الأوائل عبارات ومعاني في الحياة فإنهم يبنون ذلك عن تجربة وخبرة معاشة فيقنعوا أنفسهم ومستمعيهم بأننا علينا قبول ما يطرأ على حياتنا من متغيرات هي بحكم الطبيعة وبما قدر الله أن يكون، وشعور المرء بالرضا والقبول يجعله يؤمن بأن الأيام دول وهي في تقلبها وتغيرها تستدعي منا جميعًا أن نتعايش مع الأوضاع بمختلف متغيراتها ونعمل جاهدين لتطويع النفس وقبولها بما قد يطرأ علينا، قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم الله وجهه من ضمن شعر الحكمة:
صُنِ النَفسَ وَاِحمِلها عَلى ما يزيِنُها
تَعِش سالِمًا وَالقَولُ فيكَ جَميلُ
وَلا تُرِينَّ الناسَ إِلّا تَجَمُّلاً
نَبا بِكَ دَهرٌ أَو جَفاكَ خَليلُ
وَإِن ضاقَ رِزقُ اليَومِ فَاِصبِر إِلى غَدٍ
عَسى نَكَباتِ الدَهرِ عَنكَ تَزولُ
يَعِزُّ غَنِيُّ النَفسِ إِن قَلَّ مالُهُ
ويَغنى غَنِيُّ المالِ وَهوَ ذَليلُ
وَلا خَيرَ في وِدِّ اِمرِئٍ مُتَلَّونٍ
إِذا الريحُ مالَت مالَ حَيثُ تَميلُ
جَوادٌ إِذا اِستَغنَيتَ عَن أَخذِ مالِهِ
وَعِندَ اِحتِمالِ الفَقرِ عَنكَ بَخيلُ
فَما أَكثَرَ الإِخوان حينَ تَعدّهُم
وَلَكِنَهُم في النائِباتِ قَليلُ
إن شعورنا وإيماننا بالمقادير يحتم علينا الصبر والإحتمال والبذل والعطاء من أجل الخير والاستقرار النفسي مع البذل والعطاء في خضم الحياة التي تتطلب منا المجاهدة والمثابرة، والتعاون مع الجميع لما فيه الخير والصلاح للأوطان والمواطنين.
إنّ المتغيرات في عالمنا المعاصر تتطلب منا أن نفهم هذه المتغيرات وكيفية التعامل معها وإذا كانت أجيالنا قد بدأت في اقتحام هذا المجهول بالنسبة لنا فإننا لابد أن نعيش منسجمين معهم وهذا يتطلب محو أميتنا الحضارية والإقبال على هذه التقنية بما يفيد تعاملنا اليومي، ولذلك على مؤسساتنا احتضان جهلنا وبذل الجهد من أجل محو هذه الأمية الطارئة علينا مما يتطلب الصبر وقبول الخطأ والعثرات حتى نتمكن من مجاراة العصر وتقنياته.. ومواكبة المتغيرات من أجل صالح مجتمعنا وأوطاننا.
وعلى الخير والمحبة نلتقي