
محسن عادل
أوهام كشفتها الأزمة المالية والاقتصادية
عانى الاقتصاد العالمى تبعات الأزمة المالية العالمية خلال السنوات الأربع الماضية من دون ان تؤدى المعالجات المضنية التى اعتمدتها الإدارات السياسية والاقتصادية والنقدية فى مختلف الدول الرئيسة من تجاوز الركود والتباطؤ. وزادت الأوضاع الاجتماعية التى نتجت من اتباع سياسات مالية متقشفة معدلات البطالة وأضرت بالطبقات المتوسطة وأصحاب الدخول المتدنية. ولذلك طغت مظاهر السخط على المشهد السياسى فى بلدان مثل إسبانيا والبرتغال واليونان وبريطانيا وغيرها من بلدان فى الاتحاد الأوروبى.
لا بد من الإقرار بأن السياسات المالية المتحفظة كانت ضرورية نظراً إلى متطلبات ترشيد الإنفاق والتجاوب أحياناً مع شروط الدائنين الذين أمّنوا تمويلات مناسبة لدعم موارد الخزينة العامة فى كل من البلدان المعنية. لكن إيرادات الضرائب فى ظروف كهذه تصبح غير قابلة للزيادة بفعل تراجع الأداء الاقتصادى، ولذلك تكون معالجة العجز فى الموازنة أصعب. وكانت أزمة الديون السيادية فى بلدان منطقة اليورو عززت المطالبات بخفض الحكومات معدلات العجز إلى مستويات لا تزيد على ثلاثة فى المئة من قيمة الناتج المحلى الإجمالى، وفق معاهدة ماسترخت التى أسست نظام الوحدة النقدية الأوروبية.
وأكدت الأزمة الاقتصادية هشاشة كثير من الأنظمة والمفاهيم الناظمة للعمل الاقتصادى وبينت سذاجة فرضيات نظرية كثيرة. لكن كيف يمكن تطوير أنظمة جديدة تؤدى إلى حماية الاقتصادات من الانهيار وتطوير أعمال الاستثمار والتمويل من دون إفراط أو تبذير؟ كان الاقتصاديون ورجال الأعمال فى الولايات المتحدة وبريطانيا وعدد من البلدان الرأسمالية المتقدمة يطرحون مسألة التحرير الكامل للعمل الاقتصادى وتخفيف القيود والقوانين التى تحكم هذا العمل. ولذلك أدت فلسفة «التحرير الكامل»، التى اتبعت فى عهد الرئيس الأميركى السابق رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر، خلال العقود الثلاثة الماضية إلى التوسع فى عمليات التمويل وإصدار السندات المتنوعة وتخفيف أعباء الضرائب على رجال الأعمال والمؤسسات الخاصة.
وظهر كثير من الأزمات والمشكلات خلال تلك الفترة، ومنها أزمة مؤسسات الادخار والإقراض أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ومشكلات السندات المتواضعة، إضافة إلى الانهيارات المتكررة فى الأسواق المالية. وعلى رغم تحمل الأنظمة الاقتصادية أعباء تلك الأزمات والإخفاقات وتوجيه مخصصات من الأموال العامة لتعويم المؤسسات المالية، تحول المعالجات دون حدوث أزمات جديدة. وبينت أزمة الرهون العقارية المحفوفة بالأخطار والتى نتجت من التوسع فى القروض السكنية فى الولايات المتحدة، مدى مغامرة المؤسسات المالية فى التمويل وغياب الحصافة فى تحديد الأخطار الناجمة عنه.
يقول اقتصاديون ان تاريخ البشرية يؤكد تكرار الأزمات المالية، وإن بأشكال مختلفة، مشيرين إلى ان أزمة الكساد العظيم عام 1929 لم تكن الأولى فى التاريخ الرأسمالى بل سبقتها أزمات عديدة فى أسواق المال وأسواق السلع خلال القرن التاسع عشر، وأن الأزمات اللاحقة ليست أقل ضرراً لكن توافر إمكانات أفضل من التعامل معها فى شكل معقول. لكن هل تمكنت الأنظمة الاقتصادية من استيعاب أزمة عام 2008، وهل نحن على أبواب الخروج النهائى منها؟ طبيعى ان تكون الأوضاع أفضل مما كانت عليه فى بداية الأزمة بعدما تدخلت الحكومات ودعمت المصارف والمؤسسات المالية والشركات الصناعية الكبرى مثل «جنرال موتورز»، لكن مظاهر الأزمة ما زالت قائمة فى كثير من البلدان الصناعية.
بل ان هذه المظاهر امتدت إلى بلدان أساسية أخرى، مثل الصين والهند وعدد من البلدان الآسيوية الصناعية نظراً إلى تراجع إيرادات التصدير. يضاف إلى ذلك تزايد أعداد العاطلين من العمل بسبب عمليات الاستغناء عن العاملين لأسباب تتعلق بتراجع الطلب على السلع والخدمات وفى ظل اتباع الحكومات سياسات تقشفية. ومن الأمور اللافتة والناتجة من الأزمة ان الجدل حول السياسات الاقتصادية أصبح أكثر حضوراً، والدليل ما تشهده البلدان الأوروبية والولايات المتحدة من حوارات حول كيفية التعامل مع مختلف القضايا الاقتصادية وطبيعة السياسات المالية والنقدية الواجب إتباعها. كل ذلك يعنى ان الإدارات لا تزال فى حيرة من أمرها حول ما يجب اتباعه.
ومؤسف فى خضم الجدل والأحداث ان مسألة التنمية فى البلدان النامية ما زالت فى ذيل جدول الأعمال العالمى، خصوصاً بعد اشتداد الأزمة المالية فى البلدان المتقدمة. فالبلدان النامية تعانى مظاهر الفقر والجهل وتداعى البنية التحتية وضعف البنية المؤسسية وهشاشة القوانين والأنظمة. وتعانى البلدان النامية تواضع أنظمتها السياسية وغياب الشفافية فى العمل الاقتصادى وارتفاع مستويات الديون المحلية والخارجية. وتطرق مسئولون فى الدول الرئيسة، مثل دول مجموعة العشرين، إلى أوضاع البلدان النامية، مشددين على ضرورة مدها بدعم مالى وتخصيص ما يقارب 100 بليون دولار لدعم اقتصاداتها، لكن كيف يمكن تأمين هذه الأموال والدعم فى ظل ما تعانيه البلدان الرئيسة من مشكلات مالية؟ مطلوب تطوير مفاهيم وقيم جديدة تؤكد الترابط الاقتصادى بين بلدان العالم. وإذا كانت منظمة التجارة الدولية أكدت أهمية المنافسة وتحرير التجارة والاستثمار الدوليين من القيود وإلغاء أنظمة الحماية، ثمة أهمية لتعزيز العون التنموى والتمويل الطويل الأجل وتطوير البنية المؤسسية فى البلدان الأقل نمواً. أما البلدان المتقدمة فعليها ان تحدد أسساً واضحة للاستثمار والتمويل والسياسات الحكومية التى تحصن النظام الاقتصادى من الأزمات. ومهما يكن من أمر فإن مسار التاريخ الاقتصادى خلال العقود الماضية كشف كثيراً من الأوهام.